Spread the love

مواصفات الجسم الجميل

تحلم غالبية النساء بذاك الجسم المثالي الذي حُددت له مواصفات: التناسب والانسجام والتجانس والاتقان. جمالية الجسم نجدها مرسومة بدقة في عالم اليوم. تتجلى في صور لأجسام معروضة على لوحات الإعلانات وشاشات التلفاز والسينما وكذلك صور الفنانين وملكات الجمال. فالجسم الجميل والجذاب هو جسم رشيق ونحيل، رياضي وممتلئ في آن معاً، قائم على بنية عضلية غير متنفخة ولا تشوبها شُبهات دهنية ولا يركب بعض لحمه بعضه الآخر. القامة تكون ممشوقة وطويلة، مليئة بالتكويرات الأنثوية، مع نهود مشدودة الى الأعلى، مؤخّرة كبيرة، أرداف عالية وبطن مسطّح. وتظهر الأكتاف عريضة، واليدان والساقان عضليتان. بينما يكون الشعر طويلاً ناعماً. الوجه ذو ملامح متناسقة يكلله جبين واسع، وقد تضفي غمازات الخد جاذبية خاصة عليه. الذقن دقيق، والأنف صغير ومستقيم. العيون واسعة ومستديرة ملوّنة وذات نظرات براقة ومشعّة. الرموش طويلة، والجفون خالية من التجاعيد، والحواجب مرسومة، سواء أكانت رفيعة أو غليظة. والفمّ شبقي، تزيّنه شفتان مكتنزتان شديدتا الحمرة، تكشفان عند الإبتسام عن أسنان بيضاء…

الخصر النحيف قيمة نسوية ثابتة

تُجمع ثقافات الشعوب على القيمة النسوية الثابتة لنحافة خصر المرأة. المصريون القدماء فضّلوا المرأة النحيلة، اليونانيون الشكل الرياضي، والرومانيون اهتموا بالأرداف المعتبرة والنهود المذهلة. أما العرب فمالوا الى المرأة الممتلئة. في أوروبا خلال القرون الوسطى كان يتم تعري الجميلات ليكشف عن النهود المكوّرة والرقبة والأكتاف. وكانت النساء يرتدين مشدات للخصر بهدف تنحيفه، مما يضفي على الجسد طيفاً ساحراً. تُروى حكايات عن المبالغة في شدّ المشدات الى حد إعاقة التنفس والهضم، والتسبب بأمراض في الصدر ووفيات عند الولادة وتشوهات مختلفة. وقد أظهر الأطباء، جثة امرأة ذات خصر ضُغط لدرجة جعلت عظام قفصها الصدري تتداخل عشوائياً. وعلى الرغم من مراسيم ملكية عدة لمنع استخدامها، استمر استعمال المشدّات اكثر من ثلاثة قرون حتى أطاحت بها الثورة الفرنسية لفترة. لكنه عادت بعد أن أُدخلت عليها تعديلات جعلتها أكثر مرونة
يكتسب مقاس الخصر بالنسبة الى الوركين أهمية خاصة، حيث يشير الى الجاذبية الغامضة التي تتمتع بها النساء.   كما يدل على  الخصوبة. فالنساء صحيحات الجسم والمُخصبات يتمتّعن بنسبة خصر إلى الورك بين 60 الى 80 بالمئة.
وفي القرن الماضي وبعد الحرب الكونية الثانية، سُوق الجسم الرياضي، لكن الخصر النحيف بقي مطلباً بامتياز. وتباهت نجمات السينما، مثل مارلين مونرو، بأجسادهنّ ذات المنحنيات الأنثوية والخصور النحيلة. في الستينات من القرن الماضي، فضّلت النساء المظهر الثنائي الجِنس، وارتديّن حمّالات تُسَطّح الأثداء. فبدا الجسم مفتقداً للمنحنيات. ثم شاع المثالٌ الإنثوي الشاب، وطغت أيقونة الشكل المراهق. أما الموضات الرائجة الآن، فتشير الى محاولات ابتكار أشكال هندسية لأعضاء الجسم تبتدع مقاييس متجددة. لكن دكتاتورية الشكل الرفيع والنحيف سادت على الموضى والأذواق. وهذا ما تؤكده الإحصائيات، إذ لا زال البطن مع الثديين في مقدمة الأجزاء التي تخضع للتدخل الجراحي عند النساء

الثقافات وقولبة الأجساد

انشغلت القبائل والشعوب والإثنيات عبر التاريخ بتعديل شكل الجسم وأمعنت في التغيير  والتمثيل بأعضائه. يُروى عن أن قبائل هندية قديمة كانت تسطّح رؤوس مواليدها الجدد. وعن قبائل في الكونغو كانت تطيل عظام الجمجمة بواسطة رباطات. أما  جزر بورما،  فكانت البنات منذ سن الخامسة يخضعن لمطّ أعناقهن عبر حلقات تطوّق الرقبة يجرى تكديسها مع النمو، فتحظى المرأة بحفلة زواج تتناسب مع طول رقبتها.
 وفي المجتمع الصيني ومنذ العصور القديمة، عملوا على تقزيم القدمين وإعاقة نموّها، وحيث ارتبطت مزايا القدم بالبظر. وتحظى صاحبتها تحظى بحفل زواج مميّز. أما قبيلة الإيبانز الآسيوية فقد اهتمت بتطويل الأذنين بواسطة ثقالات تزينية. وفي جنوب تشاد، تسعى المرأة التشادية الى تسطيح شفتيها بواسطة اسطونات خشبية.
وامتدت هذه التدخلات إلى الجلد والأنف واللسان، فمثلاً، لدى قبيلة « انداني » في غينيا يتم بتر أحد الأصابع عند فقدان أحد الأولاد. أما في قبائل « التيفز » في نيجيريا، فتمثّل في الأسنان، حيث يقوم النجار بحفّها ليبتدعوا لها أشكالاً مثلثة الأضلاع. وقد يصل الأمر الى نزع سنّ معين كعلامة فارقة.

 وتُجرى عمليات شرط للجلد لخلق نتوءات دائمة، وتُرسم عليه الأوشام. « فالجسم الذي لا رسم عليه هو جسم غبي » بحسب عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي ستراوس الذي عبّر عن لسان حال هنود كادوفيو القاطنين في البرازيل حيث يعتبارون أن منّ يبقى «على الطبيعة» لا يتميّز عن غيره وتتدنى أهميته. وعلى المنوال نفسه، تسخر النساء التشاديات ولا يرضين بأزواج لا يظهرون تشطيباتٍ تدلّ على انتماءاتهم القبلية ومكانتهم. أما أبناء قبائل البافيا في كاميرون، فيشبهون الرجل الخالي من التشطيبات بالقرد أو بالخنزير. وترسم نساء الداهومي على أفخاذهن شبكة من التشطيبات.
 وللأفارقة معايير جمالية خاصة بهم، مثل الشفاه الغليظة واللون الأسود الغامق، الذي يشير إلى صفاء العرق. وتفضّل بعض القبائل حلق شعر الرأس تماماً، لتبدو المرأة أكثر أنوثة وجاذبية. كما تُستخدم الجدائل الإفريقية التي تزيدهنَّ جمالاً. أما في موريتانيا، فما زال معيار الجمال مرتبطاَ بالسمنة، التي تُبرز مفاتن الجسم وتفاصيله. ووتُعدّ ميزة تعزز حظوظ المرأة في العثور على زوج. وفي سبيل الحصول على جسد ممتلئ الأرداف، تحضّ العادات الاجتماعية على تناول غذاء دسم، واستعمال أدوية فاتحة للشهية، واتباع وصفات تقليدية متوارثة في عادات القبيلة.

الحرب ضد الذات الطبيعية

 أُفرغت مفاهيم الجمال من محتواها في مجتمعنا الراهن. إذ بات التركيز على مفاتن جسد المرأة أكثر من التركيز على شخصيتها وثقافتها. وخرجت الجراحات التجميلية عن أهدافها الأصلية، التي كانت تُعنى بمعالجة التشوهات الخلقية وإصابات الحروق وحوادث السير، لتصبح بطاقة عبور تلبي استراتيجية واحدة: استمالة الآخر وجذبه.
ومع تقدم الإختراعات والتقنيات الطبية، ازدهرت مراكز التجميل، ولم تعد عمليات الترميم وشفط الدهون أو حشو التجاعيد حكراً على المرأة، بل  باتت تشهد إقبالاً كبيراً من الرجال أيضاً. كما طالت المراهقات، اللواتي يرغبن في التشبّه بالفنانات المشهورات. وبتنا نشهد عمليات جراحية « تجميلية » تُجرى من دون النظر إلى ضرورتها أو الإكتراث لما قد تتركه من آثار نفسية سلبية. 

وإذا كان الإنسان قد تدخّل عبر التاريخ في تشكيل جسده، فارضاً عليه القيود ومتلاعبًا  بمقاساته الطبيعية على نحو عجيب، فإنه في عصرنا الحالي يُعلن حرباً شعواء على ذاته وعلى كل ما هو طبيعي فيها. ومن السهل معاينة كيف يُخضع الجسم للتمارين المؤلمة، والريجيمات القاسية والمستحيلة، والعمليات التقويمية والجراحات الجزئية التي تسحب، تحفّ، تقصّ أو تُضيف فقط لنشبّه أيقونات مفروضة. وكأننا ننصاع الى عملية قولبة  وتعذيب للجسد المسكين.
نجد أنفسنا اليوم أمام عملية تمثيل منظّمة، تعيد برمجة الجسد وتبتدع له أشكالاً هندسية متجددة، كل ذلك في سبيل تلبية نظرة جمالية يُعمل على توحيدها. تتصف بالوقاحة والشبق. ويصيغ بعض تجار الجمال نماذج تهدف فقط الإثارة الجنسية، حيث يتبارون في إبراز أجساد مروّضة ومجافية للطبيعة أحياناً، فتبدو مهتاجة وجاهزة للاستعمال. 

المحصلة … صدور عامرة، ومؤخرات يتم حشوها، وجوه متشابهة، لا ملامح فيها ولا انطباعات. وفي مجتمع المظاهر الخارجية، تُختصر المرأة في كونها مجرد عشيقة وموضوع رغبة ذكورية، فلا يعود لجسدها معنى الأمومة أو الشراكة في الحياة.

ومن الحكمة العودة إلى التفكّر في رأي عباس العقاد عن جمال الجسم إذ يقول « يكون عندما تتوازن فيه وظائف الحياة، بغير زيادة ولا نقصان ». وتبقى « آيته، أن تنهض أعضاؤه حرة سلسة الحركة… ». 

« نُشر في العدد 7 لشهر نيسان 2025 للمجلة الثقافية  « البعد الخامس
fr_FRFrench