صورة فلسطين في فرنسا.. حالةٌ من التشكُل الدائم

تتشكل صورة فلسطين في فرنسا من روافد شتى، من صور مختلفة ومتغيرة بتغير الحقبات التاريخية التي كانت تُرسّم فيها. تظهر هذه الصورة في مرآة الثقافة الفرنسية من خلال الإعلام والفنون والأدب والسينما وما تصدره دور النشر الفرنسية من نتاج فكري سياسي

في فرنسا، لا ينفصل أي كلام عن فلسطين عن المسألة اليهودية العميقة الجذور فيها. وتلتبس صورتها بعد أن لابستها ولادة دولة إسرائيل. وهنا يصعب فصل الثقافي عن السياسي. فكل نشاط ثقافي تلابسه السياسة وتتشابك معه. والمثقفون هم أولئك الكتّاب والفلاسفة والجامعيون والفنانون والمتخصصون الذين اكتسبوا بفضل حضورهم الإعلامي، سلطة معنوية تسمح لهم بالتأثير على الرأي العام. والإعلام هو العامل الأساسي في تكوين الرأي العام. هذا ما فهمته الصهيونية باكراً. فامتلكوا الأدوات الإعلامية واستخدموها في نشر دعاياتهم. حتى بات من غير الممكن الكلام عن فلسطين من دون أن يكاد يُخنق صوت المتكلم. وهكذا تتراوح ملامح الصورة في أذهان الفرنسيين بين حدّين: الفعل اليهودي-الصهيوني في رسم الصورة والفعل الفلسطيني -العربي. وهذا ما فرض معالجة أمور بعينها كالإرهاب واللاسامية.

أولاً؛ صورة فلسطين قبل النكبة الفلسطينية عام 1948

لم تأتِ الأدبيات الفرنسية على ذكر فلسطين إلا لماماً قبل أن يحوم حولها شبح الصهيونية. أصل العلاقة بين فلسطين وفرنسا هي علاقة الحج إلى الديار التي شهدت ولادة المسيح. وكانت فرنسا قد حصَّلت امتيازات وأدواراً في المشرق العربي، وفرضت نفسها كحامية لمسيحيي الشرق وللأماكن المقدسة. فكان من الطبيعي أن يُطرح سؤال فلسطين من زاوية ارتباطه بالقدس، المدينة التي تميّزت عن غيرها من المدن بوفرة الرسوم واللوحات التي خلّدتها. وكانت كتابات الرحالة من دبلوماسيين وفنانين ومصورين تتضمّن شيئاً عن أماكن الحج، إلا أن معظم هذه الكتابات كانت تدور حول وصف طبيعة فلسطين الجغرافية وجمالها، ووصف عادات الناس وتقاليدهم. وأيضاً، حول “الفِرَق والمذاهب والطوائف المسيحية” و”ديانة المسلمين وعاداتهم “. الأدباء والرحّالة أمثال شاتوبريان ولامارتين وفلوبير وضعوا انطباعاتهم الشخصية. فبقيت الصورة عن فلسطين معلّقة في الخيال الرومانطيقي، ولا تختلف عن صورة الشرق برمته: حريم سلطاني وبلاد مسيَّبَة 
وتدخل في رسم الملامح الأولية لصورة فلسطين، عامل العلاقات الوطيدة مع يهود المنطقة العربية التي تعود إلى عهد نابوليون (1800) ووعوده بتحريرهم من نير الاضطهاد الكاثوليكي، ثم إلى حرب الجزائر التي بدأت في العام 1830 وما رافقها من إجراءات فرنسية لشق صفوف الجزائريين، إذ منحت يهود الجزائر امتيازات، من بينها الجنسية الفرنسية، وسلمتهم مناصب إدارية وعسكرية فكان لهم فيما بعد، تأثير عميق في رسم صورة فلسطين. ومعلومٌ أن الفرنسية هي اللغة الأم ليهود فرنسا، لذا كان نتاجهم الثقافي أغزر بكثير مما كان يمكن للفلسطينيين أن يقدّموه من نتاج ثقافي وفكري باللغة الفرنسية.

ثانياً؛ صورة فلسطين في الفترة بين وعد بلفور وإنشاء دولة إسرائيل

انضوى الكتّاب الفرنسيون في منطق السردية الصهيونية التي تستوعب التطلعات الدينية وتستلهم الزمن الذهبي الغابر لليهود وتضعه في إطار النضال القومي من أجل التحرر من الاستعمار الصاعد في بداية القرن العشرين. وكانت الصهيونية حينها تبدو كأنها نوع من علمنة للتيار الديني الذي حمل تطلعات قومية. كتاب جوزيف كيسيل الصادر في 1924 بعنوان “أرض الحب والنار” (1) يمتدح بحماسة مساهمة المستوطنين العلمية والتقنية. وكذلك كتاب ألبير لوندر (صدر عام 1930 ) بعنوان “اليهودي التائب وصل”. ونجحت الدعاية الصهيونية في تمرير السيطرة على فلسطين كأنها معركة شعب من أجل التحرر الوطني، مستفيدةً من وقع الجرائم النازية تجاه اليهود في أوروبا. فتحول همّ التعويض المادي والمعنوي لهم نحو سياسة دعم “هجرتهم” إلى فلسطين. وقدّمت صورة عن الفلسطينيين كأنهم بشر لا يستحقون الاهتمام، يعاونون الإمبريالية البريطانية ويتعاملون مع النازية. فهم ليسوا أكثر من “أهل الأراضي المقدسة” أو “مجموعات السكان غير اليهود” أو “جماعات عربية موجودة في فلسطين”

الأكثرية الساحقة من الشعب الفرنسي والصحف ورجال الفكر والسياسة وقفت بجانب اليهود ودعمت مشروع إنشاء دولة إسرائيل. وشمل ذلك أحزاب اليمين واليسار على السواء. الاشتراكيون كانوا يتماهون ايديولوجياً مع اليسار الصهيوني منذ وقت طويل. أما الشيوعيون، وبالرغم من موقفهم المبدئي ضد الصهيونية، مالوا إلى الاعتقاد بأن الكفاح الصهيوني في فلسطين يستكمل الكفاح اليهودي ضد النازية

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945 تزايدت الهجرة السرية لليهود لدرجة بات فيها النازحون اليهود قضية من القضايا الساخنة. ففي تموز/يوليو 1947 انطلقت من مدينة سات (Sète) الفرنسية نحو فلسطين الباخرة أوكزودوس، وعلى متنها 4500 يهودي. تصدى لها البريطانيون وأجبروا ركابها على الإبحار والعودة إلى فرنسا.. فاستغلت الحركة الصهيونية الصاعدة تشدد البريطانيين وأخطاءهم في التعامل مع الركاب. أخذ الإعلام يتابع ما يجري على مدار الساعة. فأحدثت القضية وقعاً عظيماً على الرأي العام الفرنسي، مما أفرز موجة تضامن عارمة شملت تقريباً كل القوى الاجتماعية والسياسية. فكانت تظاهرات حاشدة جمعت الاتحاد العمالي العام وكل المجموعات اليسارية والحزب الشيوعي الفرنسي. وعلّق يومها رئيس الوزراء الاشتراكي ليون بلوم في البرلمان “أن الرأي العام بمجمله قد جُرحت مشاعره وينحاز نحو العدالة والرأفة 
وعلى وقع الجرائم النازية تجاه اليهود في أوروبا تحوّل همّ التعويض المادي والمعنوي لهم نحو دعم «هجرتهم» الى فلسطين. وفي هذه الحقبة، وجد المثقفون الفرصة سانحة لتكريس صورة المثقف الذي يلتزم قضايا عامّة وينفذ مهاماً نضالية كتوقيع عريضة أو توزيع منشور. فساهموا في الحملات الإعلامية الواسعة التي تميّز فيها مراسلون مثل جوزيف كيسل.. وفرنسوا مورياك في جريدة “الفيغارو” الذي وصف الصهيوني الذي وصل إلى فلسطين بـ”مخصّب الصحراء”. وازدهر نشاط الجمعيات الصهيونية المنبثقة عن الأحزاب اليهودية، وشكّلوا مجموعات ضغط أثّرت هذه الأجواء على المثقفين وفتحت لهم آفاق عمل، ولا سيما بعد ازدياد عدد الصحف والمنشورات. فلم يقدّر بعضهم خطورة أن يتقبّل مآلات الفكرة الصهيونية حق تقدير. في ذاك الزمن لم تتوانَ فصلية “الأزمنة المعاصرة” عن المقارنة بين المقاتلين الصهاينة في فلسطين والمقاومين الفرنسيين.
وكانت هناك أصوات خافتة وأقلوية أتت من بعض الكاثوليكيين. ولم يساجل أحد طروحات لوي ماسينيون (مستشرق وعالم اجتماع تخصص في الإسلام) وكان من الأقلية التي اعترضت على شرعية دولة يهودية في فلسطين، واعتبرت إسرائيل زرعٌ استعماري في الشرق الأوسط يخدم سيطرة الغرب. فلسطين..

صورة غياب
لم يكن لفلسطين حضور في المرآة الفرنسية. كانت صورة غياب. وحيث تظهّرت فكانت على شاكلة صورة مشوهة وغير صحيحة. وتغيب عنها ملامح أصيلة عبّر عنها المؤرخ الياس صنبر في “قاموس في حب فلسطين” راصداً العطاء الثقافي الفلسطيني قبل نكبة 1948 الذي عكس خصوصيات الحاضر الفلسطيني وتنوع اللهجات وقصص النضالات المحلية. وهو عطاء نخبة حداثوية تعبّر عن وعي الفلسطينيين أنهم في أصل الديانات التوحيدية. ويبرهن عن انسجام نتاجهم مع الموروثات الثقافية العربية والعالمية. وعلى الرغم من ذلك، رسم المحتل الوافد، صورة أول ملمح من ملامح فلسطين: “إنها أرضٌ بلا شعب”. وفي مرحلة زمنية لاحقة، أجاب كزافييه بارون، الصحافي في وكالة الصحافة الفرنسية، على سؤال تلقاه من إمرأة فرنسية، “من هم الفلسطينيون ومن أين أتوا”؟ جعل من هذا السؤال عنوان كتاب (2) عن “الشعب الذي نسي العالم وجوده. اُستعمر وأُخرج من أرضه ورفضوا له الحق في وطنه. وصار ألعوبة في أيدي الدبلوماسية الغربية والعربية”. لم يفضح الكاتب ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين فحسب، بل فضح أيضاً “الضمير الغربي الذي يُغمض عينيه ويُعطّل ضميره كلما كان من واجبه أن يُصحح سير التاريخ وأن يُوعي الأجيال الناشئة بخصوص قضية فلسطين”.

ثالثاً؛ حال الساحة الثقافية والسياسية قبل حرب عام 1967: في حقبة الجمهورية الثالثة كان يُنظر إلى الصهيونية كإختراع ألماني يتكوّن من ثوريين روس يعملون في خدمة بريطانيا العظمى (3). لكن مشروعات استيطانية لإدموند دي روتشيلد في القرى الفلسطينية كانت تُدعم في فلسطين 
لكن فرنسا في عهد الجمهورية الرابعة اتجهت إلى عقد تحالف ضمني مع إسرائيل. فسلّحتها بكثافة وقدمت لها تكنولوجيا القنبلة الذرية. وحظيت اسرائيل بتأييد واسع من الطبقة السياسية الممتدة من اليسار اللاشيوعي إلى اليمين المتطرف. كما دعمت الحركة الديغولية الصاعدة المشروع الصهيوني (4). ونذكر من قياداتها: بيار كوينغ، جاك دو سوستال، جاك شابان دلماس، ميشال دوبريه. حتى أن المثقفين الذين كانوا يحتجون على سياسة الحكومة في الجزائر وعلى صوابية الهجمة الثلاثية ضد مصر حاذروا انتقاد إسرائيل. كمثل جان بول ساتر، ريمون أرون، فرنسوا مورياك. وكانت علاقة فرنسا مع الدول العربية سيئة باستثناء لبنان. وفي المناخ المعادي للعرب ظهرت في مجلة «إسبري» عام 1958 مقالة للفيلسوف الروائي بول ريكور إعتبر فيها أن “الأمم المتحدرة من المسيحية بمصادقتها على إنشاء دولة إسرائيل فهي سدّدت ديناً مزدوجاً: دين يتعلق بشعب التوراة ودين يتعلق بعقدة الذنب حيال ضحايا الاضطهاد اللاسامي. ولكن حلّها للمسألة اليهودية بهذه الطريقة تسبب بنزاع يهودي عربي لم تقدر ثقله المستقبلي

وفي حكومات ديغول الأولى، كانت بصمات الوزراء الصهاينة حاضرة. لكن نهاية حرب الجزائر عام 1962، فتحت الباب أمام تحسّن ايجابي للعلاقات مع الدول العربية. بالإضافة إلى التطور النوعي الذي تجسد في الانتقال إلى الجمهورية الخامسة وانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، أدّى ذلك، إلى إطلاق يد ديغول في رسم السياسات الخارجية. فبعد انسحابه من “الناتو”، وانتهاجه سياسة مستقلة ومنفتحة على الاتحاد السوفياتي، طوى ديغول تدريجياً ما كان يمكن تسميته بالعصر الذهبي لإسرائيل في فرنسا. فأخضع علاقة البلدين لعقلانية اقتصادية. وأوقف تدخّل إسرائيل في أجهزة الجيش. وقد ذكر في مذكراته “أنه أوقف الممارسات المغايرة لأُصول التعاون العسكري“، تلك التي كانت قائمة منذ حرب السويس بين تل أبيب وباريس وكانت تُشرك الإسرائيليين على الدوام في الاجتماعات العسكرية انسجاماً مع مبدأ سيادة الدولة.
هكذا يدأت الصورة عن فلسطين بالاهتزاز بعد أن اختط شارل ديغول سياسة تراعي الحقوق الفلسطينية أسموها لاحقاً “السياسة العربية” لفرنسا. وسار الرؤساء فاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك على سياسة مستقلة تدعم في المحافل الدولية، مبادرات العرب بما يخص الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني (5).

رابعاً صورة فلسطين في حرب 1967 :

كانت المنشورات الدعائية الصهيونية تتحدث عن الفلسطينيين باعتبارهم مجموعات عربية تركت منازلها إرادياً أو انسحبت لكي تسهل دخول الجيوش العربية. وقد يحق للاجئون منهم الاستفادة من الحقوق الإنسانية التي أقرتها الأمم المتحدة. لكنهم وفي كل الأحوال، لا يشكلون مع باقي الفلسطينيين شعباً، كالشعب السوري أو اللبناني. ورُصدت بعض الإرهاصات لتحرك الطلبة الفلسطينيين في الجامعات الباريسية، ونُظمت ندوة في مقر المؤتمرات “الميتوياليتيه” شارك فيها المؤرخ مكسيم رودنسون. دعت هذه الندوة إلى النضال ضد معاداة السامية، فردت المنظمات الصهيونية بعنف، منتقدين التمايز الذي أقاموه بين الديانة اليهودية والصهيونية. بعد انتهاء العمليات العسكرية، كان لريمون آرون رأي في جريدة “الفيغارو”، لعلّه يعكس الأجواء السائدة حينها: “لم أحبذ مظاهرات الشباب التي كانت تهتف ”اسرائيل ستنتصر“ وهي تجوب الشوارع وخاصة في الشانزليزيه. ولا الحشود أمام سفارة إسرائيل. ولم أحبذ مشاركة من كان يتمسك بأن تبقى الجزائر فرنسية والتواقين لغزوة السويس وكانوا يستكملون حربهم ضد العرب عبر دعمهم إسرائيل“ (6).
وشهد الإعلام الفرنسي في هذه الفترة حملة هوجاء لم تخلُ من عفونة عنصرية ضد العرب “ورثة النازية”، “ونواياهم باستكمال القضاء على الشعب اليهودي”. ولا تُحصى افتتاحيات الصحف والمقالات والتحقيقات والعرائض ورسائل القراء والتعليقات. “العرب عالم مليء بالتناقضات والاضطرابات والشعوذة، يعيشون على أرض جافّة خانعين لقدرية قرآنية مند قرون”، “لا أمل بشفائهم”، “فلسطين أبلغ مثال، إذ حوّلوها خلال ألفين عام من جنّة من الذهب والعسل الى سهوب قاحلة”. لم يعبأ مثقفو اليسار كثيراً للغة الكراهية هذه والتي طالت العرب ولاستعادة مفردات: النذالة والكسل والبشاعة والقذارة والجشع والنفاق. وهي صفات كانت تستخدم سابقاً ضد اليهود. وكانت دعامة هذه الدعاية، عصبة فرنسية تضم الى جانب سياسيين من ذوي الميل الديغولي والوسطي، نخبة الأنتلجيسيا الفرنسية: جان بول ساتر وسيمون دو بوفوار، ريمون أرون وفلاديمير جانكيلفيتش، ايمانويل مونيه، وجاك مادول، وبول كلوديل وجول رومان. وقد يثير الدهشة اليوم تواجد مثل هؤلاء المشاهير في هيئة منظمة واحدة

خامساً؛ ارهاصات تحول المثقفين نحو تفهّم القضية الفلسطينية

عالم الاجتماع ريمون أرون الذي جنّد نفسه في الكتابة والصحافة، أقرّ أنه تلقّى «ثقافة فرنسية صرفة» لكن ”عندما يتعلّق الأمر باليهود ومصيرهم، لا أتخفى خلف موضوعية المراقب». لكنه أعلن بوضوح أنه لم يكن قط صهيونياً، ولا يعتقد بأنّ من واجب اليهود أن “يدعموا بدون شروط سياسة المسؤولين في الدولة الإسرائيلية”. ورفض أي نازع إلى الولاء المزدوج: «أستطيع أن أكون فرنسياً من الديانة اليهودية ولا يمكنني أن أكون فرنسياً وإسرائيلياً في الوقت نفسه». كان ذلك في ردّه على بن غوريون الذي يعتبر «إستحالة أن يعيش المرء يهوديته بالكامل خارج إسرائيل» (7). وحول مسألة ولاء اليهود الفرنسيين لإسرائيل، اعتبر عالم الاجتماع جورج فريدمان والروائي روجيه ايكور أن الاندماج والإستيعاب في المجتمعات الأصلية هو مسألة حتمية. بينما لم يجد ألبير مامي، وهو صهيوني من أصل تونسي، علاجاً سوى القبول بازدواج الولاء ودفع «ضريبة قومية». وكان هناك رأي لافت للإنتباه للأكاديمي جاك بيرك: «يظهر لي أن هناك تناقضاَ في أن يكون المرء مواطناَ فرنسياَ ووطنياً يبحث عن أرض بعيدة خارج فرنسا، بالإضافة الى أنها أرض يسكنها آخرون» (8). وطرح أسئلة ما زالت فاقعة في راهنيتها: «ماذا وجد المثقفون اليساريون في الصهيونية وأبعدهم عن أي حوار موضوعي»؟ . فـ“فكرة التعويض لليهود كذب وسفسطة. فالعرب لا ناقة لهم ولا جمل بما فعله هتلر. فلماذا لا نُسمي الأشياء بأسمائها؟. إنها عملية استيطانية». وطرح أيضاً سؤال ”لماذا اذن نستبعد فكرة مراجعة موقفنا؟.هذا ما فعلناه في ما عنى الموقف من الجزائر ومن غيرها“؟
هذا ما فعله الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في فبراير/شباط 2018، بعد عقود من قلب الجزائر، بقوله إنّ «الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي. وهو جريمة، جريمة ضد الإنسانية». كان ذلك تتويجاً لمسار متعرج من الإعترافات بجرائم الحرب في الجزائر. فمتى تتراجع فرنسا موقفها وتعترف بالدولة الفلسطينية؟

سادساً: توسع معالم صورة فلسطين

في حرب 1967 تميّزت فرنسا بكونها الدولة الغربية الوحيدة التي لم تتبع السياسة الأميركية الداعمة بشكل أعمى لاسرائيل. وحين أعلنت رفضها احتلال الأراضي العربية وضمّ القدس. فشكّل مؤيدو إسرائيل مجموعة ضغط ضمت المؤسسات اليهودية ومعظم وسائل الإعلام ونحو 150 نائباً بينهم العديد من الديغوليين. ولم تثنِ هذه الضغوط ديغول عن متابعة سياسته المستقلة. وللجنرال ديغول عبارة شهيرة تصف اليهود بأنهم “شعب نخبة، معتدّ بنفسه وينزع إلى السيطرة“.
من جهة أخرى، يمكن اعتبار صدور عدد خاص من مجلة “الأزمنة المعاصرة“ (9) محطة بارزة في حضور القضية الفلسطينية على الساحة الثقافية الفرنسية. وكان التحضير لهذا العدد قد بدأ في سنة 1965 وانتهى إعداده قبيل حرب 1967. ولهذه الغاية، قام سارتر برفقة كلود لانزمان وسيمون دوبوفوار بزيارة مصر وفلسطين المحتلة. واستُقبل بحفاوة بالغة في مصر، واجتمع مع جمال عبد الناصر مدّة ثلاث ساعات. غير أن مقاربة سارتر جاءت مخيّبة، باستثناء “التضامن مع العالم العربي في سعيه لتحقيق سيادته”، لم يتّخذ أي موقف مؤيد لهم 
وتمثّلت معارضة المشروع الصهيوني من الكاثوليكيين المتحلقين حول اسبوعية “الشاهد المسيحي” التي نشرت عدّة ملفات، وكانت تواجه صعوبة في إسماع صوتها. فبعد سقوط الناصرة أبدى لوي ماسينيون خشيته على مصير الأماكن المقدسة. وكان له الفضل في لفت الانتباه إلى مأساة اللاجئين الفلسطينيين. كتب في هذه المجلة جورج مونتارون وكلود بورديت الذي تطور موقفه من صهيوني الى معادٍ لها ثم الى قيادة جمعية فرنسا ـ فلسطين. وبرزت أسماء من اليسار الديغولي: جان دبوبريدال وفيليب دو سان روبير. ومن الحزب الشيوعي الفرنسي الذي دعم الناصرية، لأنها “انخرطت في الطريق اللارأسمالي”. بالإضافة إلى أكاديميين مستعربين أمثال جاك بيرك ومكسيم رودنسون اللذين ساهما بتنوير الرأي العام بخصوص الأصول العميقة للنزاع

وعلى العموم، بعد احتلال أراضٍِِ جديدة بدأت الأعين تتفتح على صورة جديدة للواقع الفلسطيني. لكن الأخبار عمّا يجري هناك بقيت مغيّبة في الإعلام الفرنسي، ولم تظهر إلا من باب المتفرقات عن أعمال عسكرية للفدائيين. وقامت تحركات للطلبة الفلسطينيين داخل الجامعات الباريسية. كما نُظمت ندوة في مقر المؤتمرات “الميتوياليته” بمشاركة مؤرخين مختصين في الشرق الأوسط، نذكر منهم مكسيم رودونسون، ودعت هذه الندوة العرب إلى النضال ضد معاداة السامية وضد الصهيونية. لكن المنظمات الصهيونية ردّت بعنف متهمة الطلاب العرب “بتجاوز حدود الضيافة الفرنسية” وانتقدت “التمييز الذي أقاموه بين الديانة اليهودية والصهيونية”، ووصفته بأنه “أسلوب استعملته النازية”.
ولم يتبع الموقف الرسمي الفرنسي انجراف الإعلام نحو تأييد اسرائيل. فحصل ما يشبه توزيع الأدوار: الرأي العام مع اسرائيل والحكومة محايدة. الجدير بالذكر أن استطلاع رأي أُجري في 5 و6 حزيران/يونيو 1967 دلّ أن 58 في المئة من الفرنسيين يميلون إلى تأييد إسرائيل في حين أن 2 في المئة فقط يؤيدون العرب.

سابعاً؛ تطور الصورة من 1967 إلى اجتياح لبنان في عام 1982:

عندما قامت اسرائيل بضرب الأسطول الجوي المدني في مطار بيروت عام 1968، تشدّد ديغول في سياسة حظر الأسلحة على إسرائيل، فتصاعدت الحملات في وجهه. وقد أثّر ذلك جزئياً في النتيجة السلبية التي حصدها في استفتاء 1968 والتي دفعته إلى الاستقالة. جاء من بعده جورج بومبيدو الذي لم يَحد عن سياسة ديغول، فيما عدا تخفيف إجراءات الحظر.
وخلال حرب أكتوبر1973، تجددت المواقف المنحازة لاسرائيل. فشهدنا الحملات الإعلامية والتظاهرات الشعبية ضد “الإعتداء العربي”، وانخرط فيها عدد من المثقفين الفرنسيين. احتل واجهة المشهد أندريه ناهير (10) وأرنولد ماندل (11) اللذين أصبغا صفة القداسة على الدولة اليهودية، وأجادا استعمال تهمة اللاسامية. نال مكسيم رودنسون على نحو خاص نصيبه من الشتائم التي لا نظير لها في الدناءة لكنه لم يتراجع أمام الضغوط. وكان استطلاع للرأي قد أظهر في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1973 أن نسبة 45 في المئة أيدت إسرائيل و16 في المئة العرب 
لم يمنع طغيان الدعاية والتأييد لإسرائيل من طرح أسئلة جوهرية فرضها واقع احتلال أراضٍٍٍ عربية جديدة. فقد أدان عالم الأناسة كلود ليفي ستراوس انخراط وجهاء الإعلام في نشر دعاوة الحكومة الإسرائيلية: “لا يمكن لي بالطبع أن أستشعر عملية تدمير الهنود الحمر مثل جرح في خاصرتي، وأن أتعاطى بطريقة معكوسة عندما يتعلق الأمر بعرب فلسطينيين” 
ولم يتوقف المؤرخ بيار فيدال ناكيه عن انتقاد سياسة الاستيطان والضم. غير أن “الفلاسفة الجدد” أمثال برنار هنري ليفي، أندريه غلوكسمان وألان فنكلكروت، فلم يجدوا أدنى مشقة في الهيمنة على الساحة الإعلامية. فمارسوا عزفهم الذي يقوم على ثبات التفوق الأخلاقي للغرب. قدّموا الإنسان اليهودي على أنه ضحية في كل الأزمنة والأمكنة، وسعوا بتكرار إلى قلب المسؤوليات والأدوار بين إسرائيل والفلسطينيين. وفي أواخر السبعينيات والثمانينيات، ساهمت فرنسا بمبادرات دبلوماسية هامة في المسألة الفلسطينية ساهمت في الاعتراف الاوروبي والدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية. فافتتح فاليري جيسكار ديستان مكتب للعلاقات معها. وساهم باعلان البندقية في 1980 الذي صدر عن 9 دول أوروبية وشدّد على أن أي حلّ يجب أن يمرّ عبر حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وفي عهد فرنسوا ميتران (1982)، نقلت البواخر الفرنسية رجال منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت وطرابلس إلى تونس 
ودخلت على الساحة الثقافية بعض المشاهد ومنها “جائزة فلسطين محمود الهمشري” الأدبية التي أتت بمبادرة من “جمعية التضامن الفرنسي العربي” ولوسيان بيترلان رئيس تحرير مجلة “فرنسا والدول العربية”. وصدرت “مجلة الدراسات الفلسطينية” باللغة الفرنسية التي دعمها صاحب دار النشر مينوي جيروم لندون، وشجعها كتاب كبار ومفكرون مثل جان جينيه وجيل دولوز وفرنسوا شاتليه وبيير فيدال ناكيه ومكسيم رودنسون وجان ماري لوكليزي

ثامناً: اجتياح 1982 يُحدث منعطفاً في الصور:

شكّل اجتياح لبنان عام 1982 منعطفاً في إدراك صورة النزاع الإسرائيلي العربي.. وتولى الفلاسفة الجدد مهمة حرف الانتباه عما يجري على الأرض. فبالنسبة إلى برنار هنري ليفي وألان فنكلكروت كان مجرد التلفظ بكلمة “إبادة” لوصف الفظائع الإسرائيلية، ومجرد نعت مناحيم بيغن وآرييل شارون بأنهما أشبه بالفاشيين، يثبت في نظرهما أن حرب لبنان لا تعدو أن تكون مجرد عدوان لفظي وكلامي على إسرائيل. وبعد أشهر فقط على مجزرة صبرا وشاتيلا، استعاد الإعلام عادته القديمة مضيفاً نغمة جديدة، أتاحتها له المواجهات بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. فاستفاضت المقالات الصحفية بمطولات الشفقة على الفلسطينيين دون الإشارة إلى الجلاّد الحقيقي، ومن دون التحدث عن الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزّة

وباتت وجهة النظر الفلسطينية تحظى بتفهم أكبر من المثقفين، ومن أوساط واسعة في الرأي العام اليساري. وفي الساحة الثقافية. فبرزت مواقف قوية الدلالة للفيلسوف جيل دولوز في مجلة الدراسات الفلسطينية إذ عدّد المظالم التي كابدها الشعب الفلسطيني، وذكّر بأعمال العنف الصهيوني وما رافقها من تعليلات خاطئة. ونبه إلى “أن تحويل أكبر إبادة في التاريخ الى شر مطلق ينمّ عن رؤية دينية وصوفية وليس عن رؤية تاريخية. وهي لا توقف الشر، بل على العكس تنشره وتجعله يقع على أبرياء آخرين. كما تتطلب تكفيراً عن الخطأ يلقي على هؤلاء الآخرين قسماً مما كابده اليهود، كالطرد والحجز في معازل بشرية والاختفاء كشعب”. وأيّد الفيلسوف فرنسوا شاتليه الحل الداعي الى فلسطين علمانية يكون كل سكانها، يهوداً وعرباً، مواطنين متساوين في الحقوق 
وكشفت انتفاضة الحجارة عام 1987 وجود الشعب الفلسطيني، وثبّتت في الأذهان صورة إسرائيل كقوة احتلال. فجاء عدم التناظر بين راشقي الحجارة من الشبان وبين ماكينة الحرب الإسرائيلية الهائلة، ليستثير موجة من التعاطف مع الفلسطينيين، ويُكوّن إدراكاً أكثر إيجابية عنهم. غير أن الصورة عنهم تبقيهم في عداد العرب والمسلمين. والحال أنه إذا كان هناك معطى اجتماعي يحظى ببعض الاستقرار في فرنسا، فهو بالضبط العنصرية المعادية للعرب، والتي لا تنفصل عن عقدة رهاب الإسلام (الاسلاموفوبيا) العميقة الجذور. هذه العنصرية بالذات راحت تتغذى من الركود الاقتصادي ومن تبدل طبيعة الهجرة المغاربية وتحوّلها من هجرة مؤقتة إلى هجرة نهائية. والميل إلى الانتقاص من قيمة العرب هو الذي مهّد إلى تمثّل المسألة الوطنية الفلسطينية في الإسلام، وتمثّل الإسلام في الإسلاموية، والإسلاموية في الإرهاب

تاسعاً؛ احتدام الصراع على ملامح الصورة

تأثرت النظرة الى الفلسطينيين في التسعينيات سلباً بسبب حرب الخليج، ثم عادت وتعززت بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، قبل أن تفقد شيئاً من بريقها بسبب الانقسامات الفلسطينية الداخلية
وكان المناصرون لإسرائيل قد بنوا استراتيجيتهم على التلويح بخطر مزعوم يمثّله المسلمون ويُهدّد قيّم الجمهورية. واصطنعوا تقارباً بين تهمتي اللا سامية والتعصب الإسلامي
وعلى الرغم من محافظة الفلسطينيين على تأييد قسم لا يستهان به من المثقفين من بين الأكثر حضوراً. بقي هذا التأييد قليل الفعالية أمام الحيرة أمام تبدد القضية الفلسطينية بواسطة “عملية سلام” مزعومة والأسلمة على الطريقة الأصولية
غير أن صنّاع الرأي المؤيدين لإسرائيل ما عادوا يعترضون على وجود شعب فلسطيني ولا على حقه في دولة. لأنهم تيقنوا أن الدولة الجديرة بهذه الصفة قد ماتت قبل أن ترى النور، بسبب سياسة الاستيطان التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
ومن جهة مقابلة، حضرت اسهامات فكرية في جريدة “لوموند ديبلوماتيك” التي عُرفت بموضوعيتها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في عهد كلود جوليان ثم اغناسيو رامونيه. وصحافييها أمثال سرج حليمي ودومينيك فيدال وآلان غريش وغيرهم. وكثرت الندوات التي تقيمها مراكز البحوث الجامعية والجمعيات المتضامنة مع الحق الفلسطيني وأحياناً معهد العالم العربي. وازدهرت حركة الترجمة الى اللغة الفرنسية. فإذا كانت الثمانينيات قد شهدت ترجمة 251 من الأعمال العربية (12)، وفي التسعينيات 400 عملاً، فقد وصل ما نشرته دار”أكت سود” (َActes Sud) وقسمها العربي سندباد وحدها، إلى 389 عملاً. ونذكر من دور النشر التي ازداد اهتمامها بقضية فلسطين دار هرماتان، دار لا دكوفرت، دار ميزون نوف لاروز، دار مسيدور، غاليمار. ولا ننسى اصدارات الاونيسكو. أما باقي دور النشر، فتصدر ترجمات من حين لآخر وعلى فترات متباعدة.
ومن جهة أخرى عندما أُنشئ معهد العالم العربي في باريس، ازداد حجم التظاهرات الثقافية. ونذكر منها : ”معرض فلسطين“ في 2016 ومعرض شباط 2017 حيث عُرضت مجموعة مختارة من الأعمال الفنية تحت عنوان ”من شعر محمود درويش“. ويقيم المعهد ندوات عن منطقة الشرق الأوسط. وتعرض فيه أفلام سينمائية…
وتشهد فرنسا حملات متنوعة تروّج لأهمية المقاطعة كأسلوب ضغطٍ أثبت جدواه في إفريقيا الجنوبية. وتزدهر النشاطات الثقافية الداعمة للحق الفلسطيني وتُقام حفلات موسيقية تُلاقي حفاوة ظاهرة، وعروض أفلام وثائقية ومهرجانات تراثية وفنية. ويزداد عدد الجمعيات الثقافية وهي تعمل بشكل غير مركزي وتشكل تنسيقيات محلية، وتخرّج الكثير من الإطلالات الثقافية من لغة سياسوية خشبية تستلهم التاريخ والفلكلور، فكل ما يمت التعريف بالتراث مهم في معركة الذاكرة التي يخوضها الفلسطينيون.

ويأخذ الفعل الفلسطيني في التزايد وتتنوع أشكاله يتبيّن ذلك من خلال مشاهد فلسطينية نراها في أماكن متفرقة. فهناك مؤشرات تضامن وعمليات توأمة مُدن مثل توأمة مدينة شارتر (Chartres) مع مدينة بيت لحم، ومدينة دنكرك (Dankerque) مع غزّة، ومدينة ليل (Lille) مع نابلس، ومدينة سان دوني (Saint Denis) مع رفح، وسان بيار دي كور (Saint-Pierre-des corps) مع مدينة الخليل ، ومدينة بلاطة مع مدينة فالنتون (Valenton). ورفع أعلام على واجهة بعض البلديات (Creil,Villeneuve-Saint) George,Bourgogne), (Aulnay-Sou-Bois)) أو على طول الواجهة العملاقة لمركز تجاري في فيلريزه (Villerezé)

. عاشراً؛ الإرهاب والعداء للسامية عناوين لتشويش الصورة:

إنتقل الصراع على الصورة إلى ساحات فكرية وثقافية جديدة. لكن جوهره بقي واحداً: هوية فلسطين. الإرهاب والعنصرية مقرونان في المقام الأول بالانغلاق على الهوية، سواء كانت دينية أم قومية. وكل قومية تبالغ في تعظيم هويتها تتحول إلى عنصرية محض (13). وتتفاقم الخطورة عندما تتحول إلى إيديولوجيا تنسج الأوهام والأساطير كما فعلت الفكرة الصهيونية بالهوية اليهودية. فهي لا ترضى بتقاسم الأرض مع أية هوية أخرى. في حين أن الفلسطينيين يرضون بأن تتسع فلسطين، بلاد الهويات الدينية والعرقية واللغوية المتآخية عبر مئات بل آلاف السنين، لهم ولغيرهم.
تزعم الصهيونية إن إسرائيل هي ضحية الإرهاب، في حين أن فلسطين هي الضحية. فقد صدّق العالم التضليل بأن فلسطين لا تاريخ لها ولا شعب، بفعل الآلة الإعلامية. والتاريخ الحديث حافل بالشواهد على الإرهاب الديني، ومن آخر تجلياته: “داعش” في البلدان الإسلامية ومشروع دولة القومية اليهودية. وهو رسمٌ لنظامٍ فصلٍ عنصري (أبارتايد) يُكرّس العرب في الأراضي المحتلة كمواطنين من الدرجة الثانية. ويعتبر “تطوير المستوطنات قيمة وطنية” ويدعو إلى “تشجيعها ودعم إنشائها”.
تُلصِق الصهيونية بصورة فلسطين عيوباً هي عيوب الصهيونية نفسها. فهي تزعم أن اليهود هم الشعب السامي الوحيد في الشرق، ولا يحق لشعوبه الأخرى أن تنتسب إلى السامية.
لقد زادت عقدة معاداة السامية صورة فلسطين غباشاً لدى الفرنسيين. إذ يُتهم كل من يعادي إسرائيل بأنه معادٍ لليهود. وللتوضيح: السامية ليست حكراً على حفدة نوح من أبناء سام دون أبناء أخويه الآخرين حام ويافث (14). لكن الصهاينة جعلوا السامية حكراً على اليهود، مع أنها تضم إلى اليهود، العرب والأشوريين والكلدانيين والكنعانيين والبابليين والفينيقيين. في حين أن يهود إسرائيل معظمهم من أصول غير سامية، جاؤوا إليها من بلدان أوروبية مختلفة مثل روسيا وبولونيا وفرنسا وغيرها. أما يهود إسرائيل الساميون فجاؤوها من بلدان عربية.

خاتمة وخلاصات

حاولنا في هذا البحث تقديم مقاربة تاريخية وسياسية وثقافية. فتبدت صور لفلسطين في حالةٍ من التشكّل الدائم. وقد أُخضعت إلى رسم وتشويه بسبب التباسها مع صورة إسرائيل في أذهان الفرنسيين. وبقدر ما كان التشويه الذي مارسته الحركة الصهيونية بحق صورة فلسطين سهلاً ويسيراً، بقدر ما يصبح اقتلاع هذا الزيف صعباً وعسيراً. فالذئب المحتل دأب على محو تراث فلسطين ولا زال يتنكر ويتهم الضحية الحقيقية بالإرهاب.
بدأت الأعين تتفتح على ملامح جديدة للواقع الفلسطيني. لكن القضية الفلسطینية تحظى مع الزمن بشعبية أكبر مع ازدياد التذمر من سياسة إسرائيل الاجرامية. وتتهيأ أرضية الرأي العام الفرنسي لتقبل ممارسة الضغوط على إسرائيل أكثر من قبل. ويتزعزع الثقة بالحلم الصهيوني القديم لدى الجيل الشاب، ويزداد نفورهم من إيديولوجية باتت عنصرية بنظر النخبة المتعلمة. لكن مسافة الفعل الثقافي والسياسي ما زالت شاسعة حتى نصل إلى الصورة النقية الصادقة، صورة فلسطين العلمانية الإنسانية

دراسة نُشرت في https://180post.com/archives/43667

الهوامش

 1- كتب ذُكرت في مقالة باللغة الفرنسية لفاروق مردم بيك عن المثقفين الفرنسيين والمسألة الفلسطينية في مجلة دراسات فلسطينية وترجمها حسن شامي.
2 –  les palestiniens un peuple. Xavier Baron, éditions Le Sycomore 1977. 
3-  https://orientxxi.info/index.php?page=recherche&id_rubrique=&lang=fr&recherche=Conférence+de+San+Remo.+Une+base+légale+à+la+création+d’un+État+juif+en+Palestine+%3F&sa.x=12&sa.y=11 
4-  اعتمدت في تفاصيل مواقف الطبقة السياسية الفرنسية والمثقفين في هذه الفترة، على الكتاب المرجعي.
Itinéraires de Paris à Jérusalem, la France et le conflit israelo-arabe,(Tome I, 1917-1958 et Tome II, 1958-1991), Farouk Mardam-bey et Samir Kassir, Institut des études palestiniennes, 1993.  
5-  Palestine 47, un partage avorté. Alain Gresch et Dominique Vidal, éditions complexe, 1987
6 – يقدّم الكاتب نفسه كعالم اجتماع يُجند نفسه في الكتابة والصحافة وذكر أنه »عندما يتعلّق الأمر باليهود ومصيرهم لا أتخفى خلف موضوعية المراقب“. ولأرون موقف هام في رفض أي نازع للولاء المزدوج:  » أستطيع أن أكون فرنسياً من الديانة اليهودية ولا يمكنني أن أكون فرنسياً واسرائيلياً في الوقت نفسه ». كان ذلك ردّه على بن غوريون الذي يعتبر « استحالة أن يعيش المرء يهوديته بالكامل خارج إسرائيل ».
7 – Raymond Aron, De Gaulle, Israël et les juifs., Librairie Plon, 1968
8 – جاك بيرك أكاديمي مستعرب. عملت هنا على تلخيص ما ورد في حواره مع ميراز آكار 1978 Jacques Berque, Arabies. Editions stcok.
9 – شارك في هذا العدد الضخم (ألف صفحة) فلسطينيون وعرب وإسرائيليون. ويتضمن مجموعٌ ثري من النصوص في مقدمها، مطالعة هامة لمكسيم رودنسون: « إسرائيل واقعة كولونيالية « .  Les temps moderne , le conflit israélo-arabe, 1967 وكان يدير تحريرها الفيلسوف الوجودي جان بول ساتر الذي ينطبق عليه تعريف المثقف الملتزم الذي بفضل معرفته وشهرته وقدرته على التوجيه،اُعتبر من صنّاع الرأي الحقيقيين. من أهمّ مواقف جان بول ساتر طلبه من الجنود الفرنسيين العصيان ورفض القتال في حرب الاستقلال بالجزائر. وردّ ديغول على المطالبين بمحاكمته:  » لا احد يسجن فولتير ». لكن انعدام حساسية سارتر حيال تطلعات الفلسطينيين كان ملفتاً. وهو بالمناسبة لم يوقع على أية عريضة تستنكر الاحتلال، في عام 1972 قال إنه يدعم نشاط معارض إسرائيلي للخدمة العسكرية ذلك أن « جيش الدفاع الإسرائيلي قد تحول الى جيش احتلال ». فيما بعد، تحمّس سارتر لزيارة السادات إلى القدس، وذهب إلى هناك عام 1978 كي يتحادث مع الإسرائيليين والفلسطينيين.
10 –  André Neher: philosophe et écrivain Français et Israèlien
11 –  écrivain et auteur d’ouvrages sur le judaïsme orthodoxe
12 –  “الثبت الببليوغرافي للكتب المترجمة من العربية الى الفرنسية من أوائل الطباعة حتى عام 2002، د. كاميليا صبحي، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة.
13 –  Benedict Anderson l’’imaginaire national, La Découverte, 2006
14 –   قسّم النص التوراتي الأجناس البشرية إلى ثلاثة أقسام متحدرة من أبناء نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. فأبناء هذا الاخير سكنوا البلاد الهندوأوروبية وبلاد فارس، وأبناء حام هم السود الذين استوطنوا أفريقيا، أما أبناء سام فهم الشعوب سكنت في الجزيرة العربية وبلاد الرافدين.