الموسيقى هي فن الألحان. والألحان تقوم عندما تنتظم الأنغام وفق ايقاعات وأوزان. تتعرفها الحضارات منذ بزوغ البشرية وتستخدمها في الأفراح والأتراح. والإنسان يلتقط بحواسه أصوات الحياة، ينفذُ سحرها الداخلي الى الدماغ الذي يُطلق ما تيسر من المواد الكيميائية الأساسية
تؤثر لغة الموسيقى أيضاً في الحيوان والنباتات. فعندما جُربّت الموسيقى الكلاسيكية على أبقار هولندية، ازداد الحليب في ضروعها وترشقت حركة عضلاتها، وحين جُربت أمام حقول الشوفان ازدهر موسمها وقويت منعتها
والإنسان يسمع الموسيقى وهو جنين. يتأثر، يلتفت صوبَ أصواتٍ بعينها. وقبل الكلمات، يتفاعل الطفل الصغير مع النغمات البسيطة. يبدي امتعاضه من أي تنافر. وهو قادر على ملاحظة فوارق في سرعة اللحن. وتشكل مناغاة الأمهات ذات الإيقاعات الموسيقية السهلة أول لغة للتواصل مع الطفل
والموسيقى بحسب جان جاك روسو هي « فنُّ ترتيب الأصوات بطريقة ترضي الأذن ». والأذن البشرية يمكن اعتبارها حاسّة للخيال. تَسمع الأصوت وتميّز فرادة إيقاعاتها، مُطلقةً ايحاءات تخلط بين الحسِّ والخيال وتصيب الوجدان. وحين نسمع بتكرار سماع موسيقى نحبها، فإننا نُنشّط الذاكرة التي ستسمح بحفظ النوتات وتوقع حدوثها. وتتحوّل الموسيقى إلى وسيلة لاسترجاع مشاعر تعود بنا إلى الماضي .
ماذا عن الحسّ الموسيقي؟
الحسّ الموسيقي هو قابلية الشعور والتفاعل تجاه النغمات. هذه القابلية فطرية ومكتسبة في آن معاً، وتختلف من شخص الى أخر. يتشكل باكراً ويتغذى بالعاطفة التي يُبديها الأهل والمحيط. وتتمُ عملية صقلٍ مع الزمن فتتكون الثقافة الموسيقية. لذا نستمتع بالأعمال الموسيقية حين نُصغي إليها بشكل واعي لكي يتم إدراك مواطن الجمال فيها
والموسيقى تداعب العقول بكل معنى الكلمة، إذ يُنشّط سماع موسيقى نحبها جزءًا رئيسياَ من الدماغ هو المسؤول عن افراز مواد كيميائية أساسية، منها الدوبامين وسيط المتعة والرغبة، والأوكسيتوسين هرمون الحب والتعلق، والسيروتونين المضاد للاكتئاب، وكذلك الإندورفين الذي يهدئ ألآلام. ونجد في قشرة الدماغ ناحية مختصة بالإدراك الموسيقي
بحسب ارسطو يستحضر سماع الموسيقى« ذاك الغائب المجهول وتُتمِّم نقصاً ما في داخلنا أو نقصاً ما في الخارج والوجود ». وكان أرسطو قد ميّز بين نوعين من الموسيقى: الاول مبتذل مخصص للعبيد والطبقات الدنية من البشر، والثاني نبيل مخصص للأحرار والشعراء وللذين سيديرون المدينة ويمارسون العلوم والفلسفة… وقارب أفلاطون الموسيقى على أنها جزءًا أساسياً من التربية، لأن التناغم والايقاع هما بمثابة مفاتيح تُدخلنا إلى المشاعر الوجدانية. منّ يتلقاها ويدركها من خلال العقل، يَصيرُ ذاك الرجل الشريف والنبيل، وتُدفعُ عنه الرذائل، وتصبح عندَه بمقام الغذاء. واقترحَ وضع قوانين تُلزم الشباب بتعلّم الأناشيد والأغاني الجميلة فقط. وتحتل الموسيقى عند نيتشه مكانة أساسية في حياته وفلسفته. وهو الذي كان يردد أنه بدون الموسيقى، تكون الحياة على خطأ. وقد صنّف الفارابي المقامات المختلفة للموسيقى وفقًا لتأثيراتها على روح الإنسان. واعتبر ابن سينا الصوت عنصراً أساسياً للوجود وأن لكل لحن مؤلف من ترتيب متناغم، له تأثيرٌ عميق على روح كل شخص.
وبدأ الاهتمام باستعمال الموسيقى للعلاج منذ القدم، وشقّ طريقه ليصل في عصرنا إلى غرف العمليات الجراحية والإنعاش وطب الأطفال حديثي الولادة. وتخصص بعض المنتجعات الصحية الحديثة غرفاً خاصة لسماع الموسيقى الهادئة على اعتبار أنها تخفض مستوى الكورتيزول هرمون التوتر والأدرينالين لتهدئ الأعصاب. كما ترفع من مستوى الإندورفين المريح والمبهج. وغالبًا ما يعتمد العلاج بالموسيقى على الاسترخاء والتأمل والسماع ببساطة من أجل تحفيز التركيز والذاكرة وهناك أيضاً تقنيات تخلق دينامية المشاركة عبر ارتجال الأصوات والغناء.
وينصح المعالجون بالموسيقى النساء الحوامل على الاسترخاء والتمتع بألحانهم بشكل منتظم قبل الولادة. ويستعملونها لتحسين مزاج مرضى الإكتئاب والزهايمر وباركنسون وفي تلطيف الأجواء الاجتماعية وتقوية الروابط الإنسانية. وتساعد الموسيقى الأشخاص الذين يجدون صعوبة في التواصل. وخاصة المصابين بالتوحد، فهي تخفف قلقهم من الخارج، وتنمّي ثقتهم بالنفس
ونسأل هل يمكن تخيّل الحياة من دون موسيقى؟