في أقلّ من خمسة قرون أصبح الشوكولا الممثل الأول للأطعمة التي تحوم حولها الإتهامات. هو وطن من أوطان اللذة نتعلّق به بسهولة تحير الألباب، ونلجأ إليه عندما يدّبُ القلق ويحل الأرق. وهو إذا ما لَدغَ اللسان مرّة وداعبَ براعم الذوق يوقعنا في الفخ، فإذا بنا نحبّهُ وننشدّ إليه حتى الإدمان. ما هي حقيقة ما يُوصم به من خِصال؟ ماهي خصائصه الغذائية؟
فلنتذوق قصّته
عندما فتح الإسبانيون المكسيك في مطلع القرن السادس عشر، كانت الشعوب الإزتيكية المحلية تستعمل حبات شجر الكاكاو في التبادل والتجارة. كانوا يستخرجون من حبوب الكاكاو شراباَ مُرّ الطعم ويُحاط احتساؤه بمظاهر احتفالية وطقوس غريبة. وكان تصنيع الشراب يقتصر حينها على خلط مسحوق الكاكاو مع الفلفل والحرّ وطحين الذرة. بعد سنوات قليلة توصلت بعض الراهبات إلى تحلية طعمه عبر خَلطِه بعصير قصب السكر، مفتتحين بذلك عهود تجارب تبحث عن طعمٍ أكثر فأكثر عذوبة. بعدها أُدخل في تصنيعه العسل والمسكة والبهار والعنبر والفانيليا.
لهنَّ من مُحبي الشوكولا ثواب الشكر الجزيل
تعود تسمية الشوكولا إلى الإسبانيين، كانوا يسمعون السكان المحليين يرددون بخشوع حين رؤية الشراب المبجّل في احتفالاتهم: ”شوكو“ ”آلت“. فشوكو معناها الصوت والضجّة وآلت تعني الماء أو السائل. وانتشر الشوكولا بسلاسة بعد القرن السادس عشر في اوروبا. وتزيَّن خلال سريانه فتنوعت الوصفات وُعدّلت نِسَب المواد المضافة وأُجريت التحسينات في الإخراج. وظهر الشكل الصلب عام 1674 سهّل ذلك مسيرة الشوكولا التوسعية. وتدخلت الآلات البخارية في التصنيع نهاية القرن الثامن عشر، ونشأت امبرطوريات التي لا زالت أسماؤها ومنتجاتها تثير اللعاب. وفي عام 1875 أنزلت إلى الأسواق أنواع الشوكولا الممزوج بالحليب مما أضفى عليه صفات غذائية جديدة. ومُزج باليندق عام 1930. ولا
نستطيع في وقتنا الحاضر حصر الأنواع والأصناف التي تكرّم الأذواق
بعضنا يحب الشوكولا الأبيض والبعض الآخر يُفضل النوع الأسود أو ذاك المحشو بما لذّ وطاب من اللوز والجوز والبندق. ولا تقتصر التفضيلات على الأفراد، فللشعوب ميول أيضاً، فبينما يُجمع الألمانيون والهولانديون والسويسريون على حبّ الشوكولا الممزوج بالحليب، يختار الفرنسيون والبلجيكيون الشوكولا الأسود، ويتحزّب الأمريكيون للأنواع المحشية، خاصة تلك التي قولبوها على شكل سبائك ساعدتهم على غزو الأفواه والأسواق حتى باتوا في المرتبة الأولى بين الدول المنتجة. وبات الشوكولا رمزاً للأعياد. رُبط بعيد الحب وصاروا يقدمونه على شكل قلب و بمناسبات دينية خاصّة مثل عيد الميلاد وعيد الفصح عند المسيحيين اللذين يقدّمونه إلى الأطفال على شاكلة بيض وأرانب، وعند اليهود في مناسبة حانوكا على شاكلة نقود، أمّا عند المسلمين فيُقدم الشوكولا بالإضافة إلى الحلويات الأخرى في مناسبات عيد الفطر وعيد الأضحى. وكرمز للمحبة احتل الشوكولا موقعاً مميزاً في الهدايا التي يتبادلها الناس في لقاءاتهم الاجتماعية
شبهات وحقائق
عندما نتناول الشوكولا يتحلّل سكّرهُ سريعاً في الفم فينعش براعم الذوق فتبعث رسائل مشحونة بالوعود إلى الدماغ تبلغه عن وصول طعام سيخمد الجوع ويشفي التعب. قد تنخدع بوصلة الأكل في الدماغ وتعتبر أن الآتي سيلبي حاجتنا الفيزيولوجية من العناصر الغذائية. ومعلومٌ أننا نأكل الشوكولا من دون جوع ويولد شعوراً كاذباً بالشبع فيؤثر ذلك سلباً على كمية طعام الوجبة التالية ونوعيتها
وتحوم حول الشوكولا شبهات وإتهامات عن تسببه بزيادة الوزن وتسوّس الأسنان وأمراض الكبد والإمساك والصداع والحساسية. ولم نجد في ببحثنا أي علاقة سببية مباشرة بين هذا العارض المرضي أو ذاك والشوكولا. فهو صديق عند الاعتدال وعدوٌ عند الإسراف
الشوكولا طعام حراري بالدرجة الأولى، ولا يخفى على أحد غلبة الأطعمة الحرارية في نظامنا الغذائي، فكيف إذا ما أضفنا على هذه الغلبة افراطاً في أكل الشوكولا. وللعلم، إنّ متوسّط السعرات الحراريّة في الشوكولا يتراوح بين 500 إلى 600 وحدة حرارية لكل 100 غرام أي ما يستطيع تزويد الجسم خُمس حاجته من الطاقة الحرارية في اليوم
لكننا لا نرى مسؤولية مباشرة للأطعمة الحرارية في زيادة الوزن إذا ما عادل استهلاكها الحاجة من الطاقة الحرارية. وتتحدد هذه الحاجة بحسب العمر والجنس ونوعية النشاط الذي نقوم به. وعلى عاتق كل واحد منّا قياس الكمية التي تناسبه في لحظة معينة ولا تطيح بتوازن نظامه الغذائي.
وهناك مزايا ايجابية للشوكولا كطعام حراري عند الرياضي عندما يحتاج كمية حرارية إضافية للتعويض بعد الجهد. وأيضاً للمسنّ الذي يفقد شهيته، وقد يكون ضرورياً في فصل الشتاء لتأمين المزيد من الطاقة اللازمة لحرارة الجسم
ولم نجد أبحاثاً علمية تثبت مسؤولية الشوكولا المباشرة في مشاكل الكبد أو في زيادة نسبة الكولسترول في الدم أو في إحداث الإمساك أو في إطلاق حبّ الشباب. ولا يُسبب الشوكولا تسوّس الأسنان عند منّ لا قابلية له لذلك ويعتني بنظافة فمه وأسنانه. فالكاكاو بحدّ ذاته مضاد للتسوّس، لكن السكريات التي يحتويها الشوكولا قد تساعد الجراثيم المسببة للتسوّس على التكاثر وهي تُزيد من حموضة الفم المؤآتية له. وتزيد الأنواع المخلوطة بالكاراميل من أخطار التسوّس لأنه يساعد على اللصوق على سطح الاسنان وفيما بينها. وتكون الحماية الفعلية عبر تنظيف متأنٍ للفم والأسنان وليس بالامتناع عن الشوكولا
هل تعلم؟
أن الشوكولا الجيّد والصالح للإستهلاك يتمّيز بصفحته المالسة ذات اللمعة الخفيفة، وبقدرته على الذوبان المتناسق والبطيء على سطح اللسان. أما إذا تفتت عند قسمته فمعناه أنه قديم الصُنع قليل الفائدة. وإذا توشّح سطحه بما يُشبهُ الخطوط البيضاء فمعناه أن زبدة الكاكو ذابت وظهرت على السطح لكن ذلك لا يؤثر في الطعم أو النكهة
والشوكولا يفضّل الأماكن البعيدة عن الرطوبة والأضواء وعن روائح الأطعمة الأخرى. وتتوازن نكهته عندما تكون حرارته بين 15 و20 درجة لذا يجدر ابعاده عن البرّاد. وتختلف مدّة التخزين بحسب نوع الشوكولا إذ يصمد النوع الأسود حوالي السنة ويصمد الشوكولا الممزوج بالحليب حوالي ثمانية أشهر، أما الأنواع المحشية بالكريمات فإنها تحافظ على نكهتها الأصلية ثمانٍ وأربعين ساعة، لذا ننصح من يبحث عن الطعم الفريد والحشوة النادرة بشراء هذه الأنواع من عند الطهاة المحترفين الذين ينتجون كميات محدودة للإستهلاك الفوري
ادمان محبب
ويرمز الشوكولا إلى اللذة فيتناوله البعض بنهمٍ وافراط قد يصل إلى الإدمان. بينما يعاقب آخرون أنفسهم بالحرمان منه. ولا نراعي في الحالتين حاجتنا الفيزيولوجية والنفسية الحقيقية. وهناك أشخاص مهووسون شوكولاتياً يتعدّى استهلاكهم النصف كيلوغرام. و”الشوكولاتومانية“ حالة من حالات الإدمان، إذ يقلق المصاب من نقصان يدفعه إلى البحث ليس فقط عن مزيد من السعرات الحرارية بل عن ”مونته“ من المواد المنبّهة. ويحوي الكاكاو الكثير من المواد المنبّهة، وهي مواد تؤثر في عمل الوسائط العصبية التي يستعملها الدماغ للقيام بوظائفه، ويشابه تركيب بعضها ما يمكن للدماغ فرزه في حالات الإنفعال العاطفي
ولا يُسبب الإدمان على الشوكولا اضطرابات فاقعة ولا تؤثر في رزانة المُصاب وعلاقاته الإجتماعية، فهو ادمان محبّب
منافع صحية
المنافع الصحية للشوكولا تعود بالأصل إلى مزايا مكوناته. وترتبط هذه المنافع بالكمية التي نستهلكها وأيضاً بنوعيته من حيث نسبة الكاكاو والسكر وأنواع الإضافات. فالشوكولا عالي الجودة يتمتع بقيمة غذائية كبيرة. فهو غنيٌ بالأملاح المعدنية والفيتامينات. في النوع الأسود نجد نسبة عالية من المغنيسيوم والحديد والبوتاسيوم، وهي من المعادن التي تلعب دوراً رئيسياً في عمل الخلايا العصبية وتحسين وظائف الدماغ. ونجد في الشوكولا الممزوج بالحليب نسب عالية من الكالسيوم والفسفور والفيتامينات التي تساعد على النمو. وثرائه من المغنيسيوم يجعل منه مضادأ للإجهاد العضلي. وبفضل الفلافونويد يعمل كمضاد للأكسدة وكواقي للبشرة بواسطة زيادة مستويات ترطيبها
والشوكولا غنيٌ بمادة التيوبرومين التي تشبه مادة الكافيين، باستطاعتها استثارة الجهاز العصبي وتسريع عمل القلب وتسهيل سريان الدم في الشرايين. وتستعمل هذه المادة في العقاقير المضادة لأوجاع الرأس والأدوية المدرّة للبول والمعالجة للربو
وبسبب مكوناته أو ما يحفزه من افرازات الدوبامين والسيروتونين، يساهم الشوكولا في تنشيط الذهن وتحسين المزاج والشعور باللذة والسعادة. لذا نلجأ له في حالات الاكتئاب
منّ هم محبو الشوكولا؟
بعض الدراسات السلوكية ذكرت أن من لا يحبون الشوكولا هم نسبة 1٪. فالأكثرية الساحقة خبرت منافع هذا المنتج الرائع. لكن هناك فئات محددة من الناس تستهلكه بكميات معتبرة في غذائها اليومي. هم الباحثون حين يبذلون نشاطاً ذهنياً مفرطاً والرياضيون ولاعبوا الشطرنج والورق والعاملون في الليل والمدخنون ومدمنو المخدرات والمصدومون عاطفياً