إنها وجهة نظر من مغترب ومقيم معاً. نُشرت في قضايا النهار 27 آب 2016 رداً على سؤال أي وطن نريد؟ ولا زالت مضامينه صالحة للمشاركة في الحوار الضروري هذه الأيام
أثبتت الطوائف عبر تاريخها أنها غير مستقلة عن الخارج، هي تتوسله لتقوية مواقع ممثليها في مزاريب السياسة الداخلية. وقد أفشل حكمها لبنان في ابتداع نظام سياسي حضاري وسط غابة من الأنظمة السياسية المغلقة، وأجهضت مختبره اللاطائفي فلم يحمل راية السلام الحقيقي كنموذج سلمي غير عنصري
يعلم الجميع أن الوطن اللبناني يقع في منطقة شقوق وتماسٍ للصراعات الإقليمية جعلته مقراً لحروب تدميرية دورية. وهو الوطن الذي خضع مفهوم الوطنية فيه الى تلاعب خبيث يُبقي البنية الطائفية محروسة من قبل الزعماء المذهبيين لتخليد سيطرتهم. فلم تتوسع حلقات التضامن المدنية خارج الطوائف والمناطق، ولم يتبلور لدى « المواطن » اللبناني حس وطني كياني متين. كما وأدت الحروب المتعددة والسياسات التي اعتُمدت إلى أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة دفعت، ولا زالت، طاقاته البشرية إلى الهجرة. في ظل ما يحصل في سوريا والمنطقة وما يُرسم من خرائط عن لامركزيات إدارية تؤطرها أنظمة حكم هشة لكن قوية في تحكمها على العباد وفي ظل عجز وإنقسام القوى السياسية المحلية.
هل سيتمكن لبنان من المحافظة على كيانه؟ وكيف سيتبدى مستقبلاً شكل نظامه السياسي؟
إن الاتفاق على سقف وطني واحد أمر بديهي نظرياُ. لكن الطبقة السياسية لم تنجح في استثمار المناسبات التاريخية (تحرير عام 2000، خروج الجيش السوري عام 2005 أو حرب تموز 2006) في اتجاه بناء السقف الوطني بمعناه السيادي. ولا في اجتراح صيغة للحكم تتناسب مع الواقع الحقيقي لقدرات اللبنانيين، مقيمين ومغتربين. ولا بد من اتفاق ميثاقي لبناء الدولة التي توفق بين حق الأفراد في التمتع بمواطنية كاملة وحق المجموعات الطائفية في الإطمئنان إلى مشاركتها في تقرير القضايا المصيرية. واليوم، صار لزاماً على الجميع التنازل (الطوعي) لصالح الدولة الواحدة، كي نخرج من الدوامة. لقد كان للبنان دور فصَّله الانتداب، وطرزته الشهابية. فُقد هذا الدور دون أن يُلتقط غيره. وهو يبدو كمن يستعطي حصة من هنا ودوراً من هناك، تاركاً قراره على غاربه . لم تنته الحرب في وعلى سوريا بعد. ولم يتفق متزعمو الطوائف وأصحاب النفوذ على محاصصة جديدة. ونقف أمام ذلك حائرين.
الدولة هي حاجة وطنية اقتصادية اجتماعية. دولة موحدة قوامها الفرد المواطن، ومن وظائفها حماية الأقليات المذهبية والطائفية من نفسها. دولة ترسو على القانون الذي يحمي الحريات والمساواة. والمنطقي المفهوم هو أن ننطلق من الدستور المنبثق عن الطائف، ونفرض على طاقم الحكم الحالي إقراراً متزامناً لقانون انتخابي عادل لمجلسَي النواب والشيوخ، مما يضع اللبنات الأولى، لتجاوز الطائفية عبر النسبية وانتخاب المغتربين والشباب، وعبر إقرار حق الإقتراع في مكان السكن في شؤون الإدارة المحلية. ومن أجل تخطي الولاءات النفعية، المولدة للفساد والفاسدين، لا بأس بفصل النيابة عن الوزارة وإلغاء طائفية الوظيفة. ومن أسس مسيرة النهوض، إصلاح القضاء وتدعيم استقلاله، ووضع إستراتيجية شاملة للبيئة وللصحة العامة وللموارد البشرية والثروات الطبيعية، مساواة حقوق المرأة بالرجل، توسيع صلاحية البلديات وإعادة هيكلة الادارة، إصلاح النظام التربوي وتعزيز التعليم الرسمي…
أما في ما يتعلق بسياسة لبنان الخارجية، لا قيامة للبنان اذا ما انزوى في حي ضيق، بعيد كل البعد عن طموحات اللبنانيين، المقيمين منهم والمنتشرين في أصقاع الكرة الأرضية، ولا إذا كانت أبوابه مشرعة أمام أي طمّاع لئيم. ولا تنفع نظرية الحياد، لأنه غير ممكن أصلاً والحروب مستعرة. لكن، إذا استقرت المنظومة الإقليمية على هدنة طويلة، قد يصبح الحياد الإيجابي عنوان سياسة تبتعد عن الأحلاف العسكرية. وعلى القوى السياسية المحلية التي تتعاون مع أطراف خارجية، أن تلتزم بأولوية حماية لبنان فقط. وتبادر الى إقناع الحلفاء بهذه الأولوية الحصرية. وتستعمل في سبيل ذلك نفوذها، بسيطاً كان أو مؤثراً. على أساس أن لبنان قدم الكثير ولا زال يقدم ضريبة الالتزام بالقضايا العادلة، وأن قدرته على الاحتمال قبل الإنفجار المتشظي، باتت معدومة. حماية لبنان الجديد يضمنها الجيش القوي وتكون كل قوى المقاومة الشعبية في كنفه لكي يستطيع حماية الوحدة الوطنية والدفاع عن كامل الحدود البرية والبحرية والجوية من الغزوات والإعتداءات
وأراني كجزء من الرأي العام غير الطائفي مواطن حر ومستقل الرأي، أتطلع إلى حيوية لبنانية تبتكر علاقة خلاقة بين مواطِنية لبنانية عربية حديثة ومنفتحة على العالم، مواطنية قائمة على المصالح الإقتصادية والتعاطي الندي مع الأصدقاء والغرباء. وأعتقد أن موقع لبنان الجغرافي لا يزال يسمح بأدوار سياسية وديبلوماسية فاعلة وداعمة للقضايا العربية العادلة. ويمكن تخيل ذلك بيسر بعد أن ترسو الأوضاع في سوريا على سكة الحل السياسي. وأقف غاضباً مع الحائرين أمام الأزمة التي تمدد لنفسها دون رادع. ولا يتفق متزعمو الطوائف وقادة أجهزة الامن ومخابرات السلطة وأصحاب النفوذ على محاصصة جديدة للنظام العقيم . ولسنا بأي حال مع تسوية تجدد هكذا نظام مافيوي. لقد حان الوقت لمعالجة العطب البنيوي. كيف سيفرض الأحرار إرادتهم؟ وكيف نجبر الظالم على وقف ظلمه؟