منذ القدم ، يبادر الطب العلاج للأمراض بالحمية الغذائية، على قاعدة أن الحمية رأس كل دواء. والحجة المضمرة أن الصيام عن الطعام يضع الجسم في حالة استقلابية مختلفة عن تلك التي اعتاد عليهاالمرء، وهي حالة من الحماض عاشها الأسلاف طويلاً عندما كانوا مضطرين لقصر أكلهم على وجبات الطعام محدودة. هذه الحالة الكيتونية تنشّط عمليات الاستقلاب الحيوية داخل الجسم وتُستهلك الطاقة الحرارية من احتياط الدهون مباشرة. وفي القرن الحادي عشر، كان الفيلسوف والطبيب ابن سينا (980-1038) قد اعتمد خيار الصوم العلاجي، ووصفه في كثير من حالات المرض لمدة ثلاثة أسابيع
وبعد القرن التاسع عشر، كرّس الكثير من الأطباء والباحثين أنفسهم لدراسة فوائد الصيام العلاجية. وأدت الدراسة المتعمقة لفسيولوجيا الجسم قبل وبعد الصيام، إلى الإقرار بأن الصوم ممارسة صحية طبيعية وتشكل علاجاً تكميلياً للكثير من الأمراض المزمنة. وصار الصيام يعتمد كعلاج ووقاية من السمنة بعد أن جُرب على الفئران السمينة وفقدوا من وزنهم وتحسن ضغط الدم والكوليسترول والسكريات في الدم لديهم
وازدهرت تجارب وأشكال متنوعة من الصيام في أوروبا وامريكا. وتطورت أساليبه في السويد والمانيا بعد نجاح ”مسيرات الجوع“ أو ”الصيام والمشي“ في ثمانينات القرن الماضي، وصدرت كتب عديدة تشهد بفوائد الصوم. وفي عام 2014 أحصى المركز الوطني للدراسات والأبحاث الطبية في فرنسا أكثر من 351 مقالة علمية عن فوائد الصوم الوقائية والعلاجية لأمراض القلب والأوعية الدموية. وثَبت مثلاً، أن الجمع بين فترات صيام قصيرة والعلاج الكيميائي يعزز بشكل كبير الشفاء من السرطان.
أشكال وألوان الصيام المتقطع
وفتحت الأبواب لتجارب ووصفات لما أسموه بالصيام المتقطع لأنه يتمحور على تغيير ايقاع وجبات الطعام، بأن يكون الصيام لمدة 12 إلى 16 ساعة أو أكثر بما يشبه تخطي وجبة طعام، مرة أو مرتين في الأسبوع
ولا توجد خطة صيام متقطع يمكن اعتبارها مثالية، إذ يُدلي من يشاء باقتراحه أو بطريقته. فنجد دعوات للصيام مدة 12 ساعة من الساعة 7 مساءً حتى الساعة 7 صباحًا من اليوم اللاحق. وشاعت دعوة تطيل مدة الصيام إلى 16 ساعة، وأُطلق عليها تسمية نظام 16: 8 حيث يمتنع الناس عن تناول الطعام 16 ساعة يومياً ويأكلون خلال الساعات الثماني المتبقية
وهناك دعوات تلعب عشوائياً بالفواصل الزمنية بين الوجبات، مثل صيام يوم أو يومين في الأسبوع أو صيام يوم بعد يوم، أو تخطي الوجبة التي لا تشعر خلالها بالجوع. بالإضافة إلى ”حمية المحارب“ التي تنادي بالصيام لمدة 20 ساعة في اليوم. وتسمح هذه الحمية بتناول بعض الحصص من الخضار والفواكه خلال الصيام، وبتناول وجبة كبيرة في الأربع ساعات المتبقية من اليوم، مع الحرص على أن تحتوي الوجبة الوحيدة على البروتينات، والدهون المفيدة، والخضروات مع بعض الكربوهيدرات. وتشترك أغلبية دعوات الصيام المتقطع في التشديد على احتساء الماء والسوائل الخالية من السعرات الحرارية والاستراحة والابتعاد عن الأعمال الشاقة
وشاعت طرق الصيام المتقطع التي تهدف إلى خسارة الوزن دون ضمانات أن يؤدي ذلك إلى انخفاض تلقائي في كمية الطعام، أو أنها طريقة أكثر فعالية من أي نظام غذائي آخر لخفض الوزن. ويمكن أن يكون لبعض أساليب الصيام المتقطع آثار جانبية مثل الشعور بالجوع والتعب واضطراب في النوم وعمل الجهاز الهضمي وفي التركيز الذهني.
ومهما كانت الأسباب التي تدعو الإنسان لتقييد نظامه الغذائي، فإن تغيير مواقيت الوجبات يحدث فرقاً في الجسم. فمخزونه من السكر يستنفد بعد ساعات قليلة من تناول الطعام. ولكي يؤمن الطاقة لإعماله، نجده يحوّل احتياطيات الدهون إلى أجسام كيتونية، وهي مواد تحل محل الغلوكوز الضروري. والصيام المتقطع الذي يلعب بمواقيت الوجبات لإطالة فترة حرق الجسم للدهون، لن يكفي وحده. وبات معروفاً أن أي حمية غذائية غير مدروسة ومشخصنة تنتهي عاجلاً أم آجلاً إلى العودة للوزن الأولي أو على الأرجح إلى ما يزيده. فالنهج الفعّال لفقدان الوزن ولخطر الإصابة بمرض السكري، هو في اقتران نظام غذائي صحي مع نمط حياة صحي. بالإضافة إلى أن العبث بتوازنات قد تلحق الضرر بكثير من الناس. فاتباع طريقة صيام متقطع من دون رقابة جدية قد يزيد اضطرابات الأكل مثل الإفراط في تناول الطعام أو فقدان الشهية العصبي. ولا ينصح بهذا الصيام لمرضى السكري ولمن يعانون من أمراض مزمنة في الكبد والكلى والجهاز الهضمي. ولا عند المراهقين والأمهات المرضعات والنساء الحوامل.
لكن الصيام المتقطع دخل في دائرة الموضة العصرية والمصالح الاقتصادية التي تتوائم مع الحاجة إلى حلول سريعة عبر وصفات بسيطة وبكبسة زر. فالالتزام بمواقيت الأكل أسهل بالنسبة لبعض الأشخاص من العيش تحت ضغط مراقبة السعرات الحرارية. وهكذا نظام لا يحدد أنواع الأطعمة التي يجب تناولها، بل متى.
بالمقابل، يسلّط نظام الصيام المتقطع الضوء على أهمية نمط حياة صحي يراعي النوم بانتظام وفي وقت مبكر من الليل، وممارسة الرياضة كل يوم. وفائدة ذلك عظيمة في وعي الفرد لسلوكياته الحياتية. إنه أسلوب حياة كامل وليس فقط مجرد نظام غذائي. بالإضافة أن سلوك هذا الدرب الآمن عموماً، يضع المرء أمام مسؤوليته في إدارة صحته. فالصيام مدرسة لتقوية الارادة وفترة لراحة البدن وفسحة للتخلص من السموم وفرصة ثمينة لتبني نظام حياة صحي.