أحلامي الوردية ذهبت أدراج الرياح، أنا العائد بعد نحو نصف قرن هجرة ولم يكن يحمل سوى شوقه لمعانقة هواء قريته. أحدهم تجرأ على القول لي « لا مكان لك هنا يا هذا »، هكذا وببساطة حكم عليّ بطردِ نفسي من مكان أعتبرهُ ملاذي الأخير، وأسقط ببرهة أوهاماً عاشت في داخلي لسنوات. كان ذلك في تلك الساعة من مغيب الشمس حيث الألوان خافتة. فأتت لحظةَ قرار صعب بأن أعتبر أحلامي مجرد أوهام وتدافعت الهموم والأسئلة في خاطري. وصرت كما في مرات سابقة أتخلّى عن أشيائي لاختصارها داخل حقيبة أو حقيبتين، ولم يكن في المجال حساب الخسارات المادية. بدا الأهم في تقصير مدة المعاناة وفي قلب المعادلة باقصى سرعة. هذا بالظبط ما كنت أنصح به الناس عندما تحلّ عليهم المصائب ثم بدأت رحلة الشفاء من حنينٍ مرضي رافق كامل حياتي. شفاء من وطنيةٍ استحالت بغمضة عين وطنية زائفة. واتسعت دوائر الرؤيا لتكشح ظلال الأسئلة الكثيفة والثقيلة. فصرت أرى كم هي معقّدة نفسيات من كنت أعتقد نفسي قريباً منهم. عوراتهم باتت مكشوفة… وشكاويهم محدودة القيمة. ومن أعماق ظلمة تلك الليلة استفاق ذهني وأملى: لا تدع نفسكَ في مهب رياحِ الذكريات. عليك ترك الحزن على القرف الذي ينتشر كالوباء. وطنك القديم يتلاشى، تتناسل فيه النعرات الفئوية ويرعى على جنباته الفساد الذي يغذي نزعة الفرداوية، المنفوخة أصلاً لدى أبنائه
أنت الآن تخرج من مستنقع وضعت نفسك فيه، وتذهب إلى البعيد… نحو عزلةِ كهولة واغتراب جديد. لقد تعوّدت على وقفات المسائلة مع الذات، وأختبرت النضال في ماضيك ِالطويل. ودفعت مسبقاً الأثمان لكي تحافظ على صدقيّة لن تهتزَ على أي حال، بمزحة تهديدٍ مبطن وعابر. وستنجب أرضك الأصلية شباباً يَحمونها من اللعنات ويطلقون فيها المستقبل الواعد. سيبقى لك بعد أن دارت الأيام جسدُ تداويه وحشرية ذهن تبقيك حياً