نُشر هذا النص في العدد 1 – أيلول 2024 للمجلة الثقافية الشهرية البعد الخامس
تستأهل حكاية الحب سردية فيزيولوجية ونفســية مركبة من نوع جديد. هنا بحث يُنظر عبــر مجهر الأبحاث العلمية إلــى كيمياء الحب بين المــرأة والرجل، منذ اندلاع شرارة الإعجاب حتى الحب الحقيقي لمن استطاع إليه سبيلا.
الحب هو مســيرة طويلة تمُّر بعــِّدة مراحل، تبدأ بإعجاب وانجذاب، ثم اشــتهاء الشريك الآخر وبعدها التعُّلق والارتباط… وتكون هناك افرازات كيميائية محسوبة بدَّقة مذهلة، وهي تمّيز كل مرحلة من مراحل الحب بقدرة قادر…وتأتي الأســئلة مزدحمة، أُطلقُها على الجميع، كما يُطلقها الفرد .على نفســه المولودة من حب لولاه لما كان، ولما قضى طيلة حياته ينشد هذا الحب
لماذا ننجذب إلى الآخر ونقع في هواه؟ ما هــي مواصفات هذه الجاذبية ؟ وكيف تتداخل مع مفهوم الجمال ؟ماذا يجري في الخفايا الفيزيولوجية لكيمياء الدماغ ؟ ما سرّ الحميمية التي تســري من دون مقدمات أو أسباب ؟ ماذا عن آليات الرغبة تجاه الجنس الآخر ؟ ماذا عن هرمونات الحب وفرموناته
الجاذبية الغامضة
هي الانجذاب إلى شــخص معَّين، فُنَسحر بجماله وصفاته، أي أن «كوكتيلــه» الإجمالي أصاب فينا مقتلاً. فالإنســان يمتلك رادارات حساســة تلتقط الإيحاءات والإشــارات البيولوجية التي ُيطلقها الآخر الجميل. هذه القوى المغناطيسية قد تكون مســتترة أو ظاهــرة، لكنها تثير الحــواس الخمس حتى تفضــي إلى تجاذٍب هرمونــي. يتحدث الناس عن وجــود «كيميا» بيــن الذكر والأنثى، أي تلــك الجاذبية الغامضة التي تفتح الأبواب لعلاقة حب، فتشــتبك الشــرارة الأولى مـع عوامل كثيرة فيزيولوجية ونفســية واجتماعية تتحكــم بالجاذبية، غير أن الهاجــس العميق يبقى، ذاك السعي الغريزي إلى اصطفاء أفضل شــريك جنسي واستمرار الجنس البشري.
لنفترض أننا أمام حالة شائعة لما يُســمى «الحبّ الكامل» أي العلاقة التي تتعدى إشباع الغريزة الجنســية، حين تتوّحد الرغبة في جسد الآخر مع مشــاعر الحنان والأمان التي تؤمنها استمرارية العلاقة وبناء عائلة. يســمح ذلك بمتابعة سردية الحب ودروبه التي تطول أو تقصر بحسب قوة واستمرارية الدفق العاطفي، حيث يعتمد هذا الدفق على ثلاثة مفاتيح كيميائية هــي: الهرمونات والفرمونات ووســائط كيميائية – عصبية أخــرى تنقل مواد الســعادة، بالإضافة إلى مراكز عصبية وغدد، لعل أهمها غَّدة ما تحت المهاد المسؤولة عن إثارة الانفعالات الجنسية والمشاعر العاطفية.
موضوع الحب هو الجمال
الانسان يحب ما هو جميل في ذاته. والجمال هو تلك القوة الشعورية الغامضة التي تقوم أِثرَ نظرةٍ أورائحةٍ أو تأمل، فتمنح حالة ارتياح وإيجابيّة. وتملك حواء أنوثة جاذبة تجعلها تشع جمالاً. والجاذبية والجمال يتداخلان. الجاذبية تُظهر الجمال وتزيده. لكن ليس كل جميلٍ جذاب. وليس في استطاعة كل امرأة أن تكون جميلة في عيون الآخر، ولكن في استطاعة أي امرأة أن تزيد جاذبيتها.قس ّ م العرب الجمال إلى درجات: الملاحة، والح ُ سن، واللطافة، والجمال. لكن » كل مليحة بمذاق «.
ولطالما شكّل جسد المرأة مكمن وحي وإلهام، نُظمت له أروع القصائد، ونُحتت له تماثيل، ورُسمت لتمجيده لوحاتٍ خالدة. ويملك الرجل ما يمكن وصفه بالبوصلة الذكرية، تكون مستعدة لالتقاط علامات الجمال وهي متأهبة دوماً. ينجذب الرجل بسهولة لما هو جميل. وقد نشهد حولنا من تكون بوصلته فائقة الحساسية. نراه يطلق سهام جاذبيته من حوله بعشوائية. وبالعموم قيل أن الرجل يكون حاضراً لفعل الحب من اجل الجنس. أما المرأة، فإنها تخون من أجل الحب.
ما هي الصفات الجسدية التي تجذب المرأة وتوقعها في شباك الهوى؟
أن أبرز ما يلفت انتباه المرأة إلى الرجل وهو على الشاطئ، عضلات ُ بطنه ثم وجهه فعضلات ذراعيه وأكتافه. وعندما تَلقى المرأة الرجل في الشارع، تنظرُ الى عينيه وابتسامته وقامته. وقد تجذبًها لحيته. فالعديد من النساء يعتبرن اللحية من مميزات الرجولية. بعض النساء تُعير الاهتمام لليدين الكبيرتين، ولطول الأصابع والأظافر النظيفة. وتفضّل البطن قليل الانتفاخ والظهر المستقيم. و لا تغفل النساء أناقة الرجل وتميّز هندامه.
لكن جمال الرجل لا يكمن في مظهره الخارجي. العديد من المشهورين بعيدون كل البعد عن الاعتدالوالتماثل، وهما من الصفات المفترضة للجاذبية. مع ذلك، نراهم يحصدون الإعجاب أينما حلّوا. ننجذب مثلاً، الى الوجوه الخارجة عن المألوف. ننجذب الى ابتسامة تشعّ حرارة ولطف وتجعل المرء » قريباً من القلب «. والإنسان يجنح الى ما هو ممنوع فيصبح مرغوب. وقد تنجذب المرأة إلى الرجل المثقف الذي يُتقنُ اللغات، وصاحب النظارات الذي يوحي بالجدية والأمان. والأنثى تبحث وتنجذب إلى صاحب المرتبة الاجتماعية الذي يستطيع تأمين الغذاء والإيواء والحماية بما يضمن مستقبل أطفال محتملين. وهي تلحظ بنظرة واحدة صحته وقدرته البدنية وعمره.
الجاذبية مفتاح الحب
ينجذب الذكر الى حضور الأنثى من على بُعد. حين ينطلق منها إيحاءٌ غامض يغويه، تَستعرُ عنده تخيلاتٌ تروح تتغذى بالمعلومات التي تصله عبر حواس النظر والسمع والشمّ. وفي الوقت عينه، تُسترجع ذكرياتٍ مَضَت وخزّنها الدماغ. فيُصاب بما أُصيب به ايروس، آله الحب، في اسطورة غرامه مع بسيشيه، بعد أن حَملَقَ في وجهها وبَهرهُ جَبينها المشرق وهدبها الناعس وخدّها الأسيل… وقع في غرامها.
ويقع صاحبنا صريع الحب… هذا الشيء الحس ّ ي الغريزي الذي يزرع حب الحياة والسعادة، وما المشاعر سوى روابط عصبية تسير في هدى بقاء الجنس البشري.
يُظهر التصوير الإشعاعي في أول مرحل الحب بين الرجل والمرأة، نشاطاً مميزاً في المناطق الخاصة بالانتباه والحدس والذاكرة عند المرأة. ونشاطاً أكبر في قشرة المخ لمنطقة البصر عند الرجل. هل يعني ذلك أن له أسبقية في الوقوع في الحب من النظرة الأولى؟
تنجذب المرأة الى الرجل طويل القامة وصاحب وجنات بارزة وفك عريض، وهي سمات تشير الى نشاط هرمون التستوستيرون. وهو الهرمون الذي يتحكم بالرغبة الجنسية وبالسلوك الذي يدفع الرجل للتقرّب ومغازلة المرأة.
وينجذب الرجل إلى حيث لا يدري… وتمتزج في ذهنه منحنيات خصرها وتكوير نهديها والوركين، أي ما يشير إلى مستوى هرمون الأوستروجين الدال على الخصوبة وعلى قدرة الجهاز المناعي الواقي من الأمراض.
يعطي الرجل أهمية كبيرة لشكل المرأة وجمالها ونضارة شبابها. يَلحظُ لياقة بُنيتها وطراوة جلدها واكتنازَ شفتيها ولمعانَ شعرها. تلفُتهُ أناقتها ومشيّتها. ينتبه الى حضورها وثقتها بنفسها. وتسحره طريقة في الإبتسام أو لمحة غنجٍ ودلال. وبحسب علماء النفس، يعشق الرجل صورة أمه التي يحتفظ بها في لا وعيه وتجعله ضعيفاً أمام الروائح والتصرفات التي تذكّر بها وبالماضي السعيد. وفي لحظة شاعرية ورومانسية تأتي إثارة، قد تكون تصرّف معين أو ارتباك ما، توحى له بأن المرأة قابلة للمراودة عن النفس. فتستيقظ شهوته الجنسية وتتَفتح أبواب الغرام.
كيمياء الحب
أطلق العلماء على الجزئيات المنبعثة من جسد الإنسان اسم « فُرمونات ». وهي مواد كيميائية يفرزهاالجسم من خلال جهازه التناسلي وإبطيه وحلمتي ثديه، وجلدة رأسه واللُعاب. ولكل فردٍ فروموناتَه، تميّزه وتشير إلى تكوينه العضوي. الفرمونات هي المسؤولة عن جاذبية الناس في منظومة العشق. وهي رسائل الإغراء التي لا رائحة لها، يلتقطها الشريك وتصل أخبارها الى غدّة ما تحت المهاد، وهناك تختلط في المراكز العصبية العليا مع الرسائل الوافدة من حاستي الشم والنظر والسمع.
لكن كامل أدوار الفرمونات في الإثارة الجنسية فلا زالت من الأسرار. ونعلم بفضل الأ بحاث الحديثة، أنها تحدد قابلية واحدنا للآخر، وبسببها نبتعِدُ عن هذا ونتقرّب من ذاك. وأحياناً، تشدّنا فجائياً نحو الآخر، وتمحي أية سيئات لديه.
واهتمّ الباحثون وتجار الجنس كثيراً بالعلاقة بين الفرمونات والاغواء الجنسي. فعملوا على تحديد مكوّناته وعزلها وإنتاج هذا التر كيب الرائع. وتمّ تصنيع عطر مدعّم بالفرمونات. ويعرف العلماء أن الفرمونات تتحكّم بالغريزة الجنسية عند الأسماك والحيوانات والحشرات. و لاحظوا لها دوراً خاصاً في تزامن الدورة الشهرية لدى الفتيات في المدارس الداخلية، أو النساء اللواتي تتشاركن مكان العمل.
هرمونات ووسائط كيميائية-عصبية
يتحكّم هرمون »التستوستيرون« وهرمون »الاوستروجين« في الشهوة الجنسية. ويعتمد الدماغ في إدارته لمراحل الحب على خليط من ثلاثة وسائط كيميائية-عصبية )الفينيل اتيلامين، نورادرينالين، الدوبامين( مسؤولة عن سلوكياتنا أثناء الحب. عند انطلاقة شرارة الإعجاب والانجذاب، ينشط الفينيل إتيلامين، وهو و كيل رئيسي يُفعّل النورأدرينالين والدوبامين،
فنحصل على تلك المشاعر الرائعة المرتبطة بالحب الرومانسي. » فلا هي تدري ولا هو يدري… وما ذاك إلا الهوى المبكر« كما قال الشاعر.
ثم يزداد دفق الدوبامين وينفعل المزاج ويشعر الانسان بالرضى والسعادة. كما يتحفز نظام النقل العصبي (نورأدرينالين) فتتشغّل الرسائل الموجهة إلى مناطق الجسم. تتسارع ضربات القلب، يحمرّ الوجه، يتعرّق الجسم. وهي علامات تصيب العاشق أمام المعشوقة.
وعندما تحصل دفقة قوية من الدوبامين يجاريه هرمون التستوستيرون المسؤول عن الرغبة الجنسية ورغبة الامتلاك.
فيحل ّ الانبهار بالحبيب الذي يمحي العيوب ونصير في بهجة وسعادة يسيطر على التفكير. بُعده مقلق ٌ ، وغيابه يجلب التعاسة. وتكون « ساعة في قرب الحبيب » …أحلى أمل ّ في الحياة .
نستأنس بوجوده، ونستشعر … فالحب، كان ولا يزال أكبر منتج للأشعار الرومانسية ولسائر الفنون عبر التاريخ الإنساني.
الدوبامين المحبب
الدوبامين هو الوسيط الكيمائي الذي ينظّم سلوك الإنسان في مجالات متعددة. استحق ّ منّ اكتشفه في العام 2000 جائزة نوبل للطب.
في وضعٍ طبيعي، يفرز الدماغ كميات ثابتة ومعتدلة من الدوبامين نظراً لحساسية دوره في التوازن الذهني.
وله آثار نفسية إيجابية قد نجد ما يماثلها حين نتناول وجبة غذائية لذيذة، أو عند قراءة كتاب رائع… فعندما تسري دفقة دوبامين تُشعرنا بالراحة والنشوة.
وتودي دفقاته خلال علاقة الحب إلى دفقات سعادة وهناء. نكتشف خلالها مزايا الشريك. فالدوبامين، هو وسيط اللذة الذي يجعلك أكثر سعادة وحيوية. ويتحكّم بمسيرة العلاقة المستجدة وفي ردودنا العاطفية. نقصانه يولد القلق والكآبة. لذا يُستعمل كدواء ناجح للاكتئاب. ونعرف الكثير عن فائض إفراز الدوبامين عند المدمنين على المنبّهات والمخدرات. فالزيادة المفرطة هي كمرض النّهم، والخوف على »من يعشق يلّذ له الغرام« بحسب قول المتنبي. إذ من الممكن أن تودي الرغبة في فائض من اللذّة الجنسية الى إدمان على الجنس.
ينتج عن تدفقات الدوبامين تعلّق ٌ بالآخر لأنه يهبنا حالة حميمية من الارتياح. ونستلهم تاريخنا في العائلة والذكريات التي تشكل قاعدية تحتية للمشاعر العاطفية. ثم يحضر أثر مادة السيروتونين التي تجعلك تشعر بالانبساط والسرور، ومادة الأدرينالين الذي يزيد دقات القلب ويثير الانتباه والتفكير، فيغدو الذهن منشغلاً بالحبيب، ناسياً ما عاداه. وتقل ّ ساعات النوم لكثرة أحلام اليقظة التي تُحاكي المحبوب. وفي الحدّ الأقصى من افراز مواد اللذة تتضخم الأحلام الوردية. فنصل إلى ما نسميه الشغف. وهو نوع من الجنون يجتاح العقل ويحيل قرارته خارج المنطق، ويصل به إلى عالم من الوهم.
معاني الحب ودرجاته
سعى المفكر علي حرب الى تحليل مصطلحات الحب ودرجاته. في كتابه » الحب والفناء « )الدار العربية للعلوم ناشرون الطبعة الثالثة 2014( يجد أن كل مصطلح » هو وصف للحب في حال من الاحوال، أو رؤية له من أحد المقامات «… فالحب هو استحسان في أول درجة من درجاته، وألفة باعتباره تناسباً بين شخصين، وهوى … وإذا قوي َّ صار ميلاً بالكلية الى المحبوب وإعراضاً عما سواه، وخلّة نظراً لأن شمائل المحبوب تتخلل روح المحب الذي يتكيّف بها، وشغف لبلوغها شغاف القلب وهو الكلف والولوع بالمحبوب… وهو عشق ان أفرط واستولى على صاحبه، وغرام نسبة الى النشوة التي وافتتان لكونه يجرّ الى عدم المبالاة بالخلق، ووَلهٌ إذ بهِ يقيم العاشق في « يُحدثها في نفوس العاشقين، مقام الحيرة، وجنونٌ لأن به ذهاب العقل. )منقول بتصرف(
– بعد مرحلة الحب الأعمى ومع مرور الزمن، يعرف الحبيبان مرحلة من الارتباط العاطفي طويل الأمد. وفيها، يتكيّف الزوجين بالتي هي أحسن مع اكتشاف سلبيات الآخر. هنيئاً لمنّ ينجح في الحصول الدائم على مكرمات الحب على قاعدة: يحبني ألف مرة وأنا أحبه ألف مرة وأكثر. هذا الحب الخالص يسهل الإدمان عليه وهو ادمان محبب يشجعه المجتمع. والاستقرار في ممارسة الجنس يُحفّز افراز هرمون الإخلاص، الفازوبريسين. وبوجوده يتعزز الاستقرار النفسي والروابط العائلية الطويلة الأمد التي تهدف إلى تربية الأطفال.
وللعلم، يُستعمل هذا الهرمون في علاج أوجاع البعاد وحالات فقدان النشاط والاكتئاب. وفي مرحلة التعايش والتكيّف بين الزوجين نشهد تدخّلاً حاسماً لهرمون الأو كسيتوسين ويُسمى »هرمون الارتباط« الذي يعزز الراحة النفسية والبدنية. هذا الهرمون غزير عند النساء. ويكون مستواه أعلى عند الذين يستمتعون بعلاقة زوجية طيبة. وهو هرمون النشوة والاستمتاع خلال العلاقة الحميمية، والخصوبة والأمومة.
و لا نهاية للحب. ننجذب نتعلّق نرتبط ونتوح ّ د. ويمكننا في حالة الانفصال البدء من جديد الى ما شاء الله