لبنان في حالة تفكك وفوضى، المؤسسات معطّلة وتنهار وكرامات تُهدر وتُداس، وفي الخارج تبدو صورة لبنان مخجلة. المسؤول الأول عن نكبته هو نظام حكم تحاصصي اعتمد الطائفية في التمثيل السياسي والإداري. هذا النظام السياسي أرسته فرنسا في حقبتها الاستعمارية، وكرّسته في ما بعد التسويات الداخلية التي رعتها القوى الإقليمية والدولية، واستحكمت به أحزاب مذهبية وزعماء عاثوا في الأرض حروباً وفساداً، فوصلنا اليوم إلى الأحوال الكارثية الراهنة.. وترانا في انتظارٍ مفتوح على المجهول.
صيغة ابتزاز وفيتوات متبادلة
الطائفية هي الانتماء الفكري والعملي للطائفة بدل الوطن. للجزء بدلاً من الكلّ. وهي في لبنان مرضٌ سياسي اجتماعي يتفشى في المجتمع كالسرطان. تأتى المرض من تداخل الدين والولاء السياسي وعلاقات القرابة والمصلحة الاقتصادية. ثم أمسى أساساً في الممارسة السياسية وفي الحياة الاجتماعية. وتلعب قوانين الانتخابات الدور الرئيسي في إعادة ادخال الناس في عصبياتهم الضيقة وتجديد شرعية النظام الطائفي.
وفي ظل النظام الطائفي يتعزز انكفاء الجماعات على ذاكراتها الخاصة. فيُضعف ذلك ولاءها للدولة ويمنع ارتقاء المجتمع إلى وطنية جامعة تسمو على الفئويات المذهبية. وهذا بالضبط ما تحتاجه المجتمعات ذات التكوين المتعدد. وتهيمن أحزاب الطوائف على جميع الهيئات السياسية والاجتماعية والتربوية التي يكتسّب الفرد في ظلها ذاته المذهبية. وقد أعطى هذا النظام الطوائف وكالة حصرية على الإنسان ووجوده. فمحكومٌ على”المواطن” الفرد أن ينتظم في الطائفة من المهد إلى اللحد.
كذلك تحوّلت الطوائف إلى ”متحدات اجتماعية“ تقف بعضها لبعض بالمرصاد. إزداد التعصّب المذهبي مهدداً على الدوام السلم الأهلي. والأنكى أن الطوائف دخلت بحماسة في الصراعات الدموية، الحامية الوطيس أصلاً في المنطقة. فتكوّن عقل طائفي مريض وميليشيوي يغويه اللعب على حافة الهاوية. وتتصارع الطوائف لأبخس الأسباب أحياناً، لكنها تهبّ إلى التحالف عندما تُمسّ امتيازاتها وحصاناتها.
وتعمل أحزاب الطوائف في خدمة زعماء أحاطوا أنفسهم بأزلام مسلحين. يرفعون رايات ملوّنة ترمز إلى وطنيات ”مبندقة“، وتنسج تحالفات مع الخارج تماماً كما كان يفعل أجدادهم المقاطعجية للحصول من الوالي العثماني على مهمة جباية الضرائب.
وقامت سياسة إختزال مقيتة فصارت الطائفة تُختزل في حزب أو اثنين، والأحزاب بزعماء يدّعون التمثيل الحصري للطائفة. وبإسم الطائفة سيطروا على المرافق العامة ومقدراتها. تعاملوا معها كأملاك خاصة ومواقع نفوذ. فترعرعت تحت خيمة ”جماعتنا“ مصالح اقتصادية واجتماعية ضخمة يشترك فيها قسم كبير من اللبنانيين، يستفيدون من الفتات التي تُرمى للمحاسيب والأزلام.
ووضعت أحزاب الطوائف مجتمعة، على مدى تجربتها في الحكم، سياسات اقتصادية واجتماعية ضربَت البنية التحتية لإقتصاد منتج، وكانت جميع هذه السياسات في خدمة فئة محدودة جداً من اللبنانيين.
واستلهمت أحزاب الطوائف صيغة ”الديموقراطية التوافقية“، فأنتجت حكومات ائتلافية تملك فيها ”المكوّنات“ حق النقض. فصرنا أمام صيغة ابتزاز وفيتوات متبادلة. ثم أضافوا أعرافاً لتفسير التوافقية والشراكة والميثاقية وحقوق المذاهب. ولكثرة نزاعات الزعماء على الحصص وتغير تحالفاتهم، اختلطت المعارضة بالموالاة، واستشرت التسويات على قواعد مافياوية. واستجلبت بالخديعة أموال الناس من أجل سرقتها. ثم وقفت سداً منيعاً أمام العدالة.
تجويف السياسة والعمل السياسي
في ظل النظام الطائفي يتم التعاطي مع السياسة والعمل السياسي على أساس أن المواطنين رعايا طوائف. يُجوّف ذلك مفهوم السياسة التي تتوخى المصلحة العامة. كما ويُحصر العمل السياسي داخل خريطة العصبيات الأهلية وفي الدوائر الأيديولوجية والقضايا الكبرى. ويُبعد ”المواطن“ عن المعنى النبيل للعمل السياسي الذي يهتم بشؤون الحياة اليومية وحقوق المواطنين في الصحة والتعليم والعيش الكريم.
وفي ظل النظام الطائفي يُدمن ”السياسيون“ تجاوز الدستور والقوانين ومصادرة النقابات واستفاحة المساحات العامة. كما وتُجهض المبادرات المستقلة عن الطوائف بقوة الترهيب والبلطجة وشراء الذمم. قلما يفلح الفرد في التفلت والتفرد، فلذلك عواقب العزل والتهميش عن الأهل. وقد يُرصد من استعصى أمره وأبى البيعة، ولا يجد نصيراً. لكن الغالب في العلاقة مع الرعية، هو مهابة استبداد ناعم يقوم على مروحة واسعة تبدأ من التنفيعات ولا تنتهي بالتهديد والأذية. فتتكيّف الناس وتخضع، وبمرور الزمن يصبح خضوعها طوعياً.
قواعد العيش وفق الطائفية لها فعل “المخرطة” التي تُحوّل ”السياسي“ إلى طائفي. ويشهد تاريخنا الحديث على زعامات حملت في بداياتها السياسية شعارات وطنية جامعة وانتهت زعامات مذهبية. رفيق الحريري ارتدى عباءة الزعامة السنّية بعد سياسة انفتاح طويلة على كل المذاهب، وتخفّى نبيه بري وراء خطاب إلغاء الطائفية ليستحوذ على حصّة الشيعة، ورفع وليد جنبلاط راية الحركة الوطنية ليصبح زعيماً للدروز، وأهمل التيار الوطني الحر علمانية خطابه السياسي الأول فأمسى جبرانه مدافعاً عن ”الحقوق المسيحية“.
وفي ظل النظام الطائفي تهيمن الطوائف على الهيئات السياسية والثقافية والاعلامية. ونرى أحزابها تطلق شعارات شعبوية تلهي الناس ولا تعالج قضية. تسرق أجمل الكلام السائد لتحسبه لها، وتحاضر في العفّة والأدب. ويتم خنق الفضاء السياسي بتبادل الاتهامات والتخوين. ويتحوّل الإعلام إلى بروباغندا لغسل العقول وتطويعها، وصولاً إلى ممارسة التحريض وإثارة النعرات العنصرية.
ولكل طائفة سردية ”وطنية“ تتوجه إلى قطيعها أولاً. وتتميّز بتواريخ تعتبرها مجيدة، وتبتدع مصطلحات ومفردات تجعلها ماركة مسجّلة.
ولعل في قول الناس أن ”السياسة عم تفرّقنا“، عبرة. فلا يختلف اللبنانيون في معتقداتهم الدينية بل زعماؤهم هم الذين يختلفون على مغانم الفساد ويستعملون غب الطلب عصبية ”يا غيرة الدين“. يتلطون بالدين وهو منهم براء.
إلغاء الطائفية من النصوص والنفوس
قد يعتبر البعض أن الغاء الطائفية من النصوص القانونية من شأنه تقويتها في النفوس. لا نجد دليلاً جدياً على ذلك. ومقولة «إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص» هي مقولة عقيمة أدّت إلى استفحال المرض. فالطائفية ليست صفة جوهرية عند اللبنانيين لا بالمعنى البيولوجي ولا النفسي. ولا وجود لجينات مسؤولة عن الولاء الطائفي للإنسان.
والصحيح، أن إلغاء الطائفية هو مسار تحررٍ طويل يفرز قوى لا طائفية قادرة على تحرير التمثيل السياسي الشعبي من القيد الطائفي. ويستوجب ذلك تعديلات في النصوص واحداث صدمات وعي لتهذيب النفوس وعلاج العقول المصابة. ولا فكاك من المرض الا بخروج الفرد من قوقعته الطائفية، وأن يتعامل مع نفسه كمواطن في دولة لا زالت قيد التأسيس. وأن ينظر الى غيره بوصفه زميلاً أو جاراً أو صديقاً، أو شريكاً له في الوطن والإنسانية.
إلغاء الطائفية دوارٌ لن ينتهي. البعض يريد إقرار القانون المدني الموحد قبل إلغاء الطائفية السياسية، والبعض الآخر يرمي حجّة إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص. ولا قيامة وطنية لبنانية جديدة إلا بإلغاء الطائفية من النصوص والنفوس على حد سواء.
طرح الدولة المدنية يرتكز على نقطتين: إلغاء الطائفية السياسية، وقانون موحّد للأحوال الشخصية. ينسجم هذا الطرح مع روحية ”اصلاحات اتفاق الطائف“ التي تجاهر غالبية القوى السياسية بضرورة تطبيقها.
حسناً، من المفهوم، أن ننطلق من الدستور للعبور إلى دولة المواطنة. ولننجز التعديلات الدستورية التي تلغي الطائفية بكل اشكالها سياسياً واجتماعياً. فدستور الطائف خرج بتوجه صريح إلى إلغاء الطائفية في الحكم والإدارة وحصر التقاسم الإداري في وظائف الفئة الأولى في ”المرحلة الإنتقالية“. وفي مراجعة سريعة لاتفاق الطائف نجد بنوداً لم تُنفّذ وأُخرى لم تعد صالحة. نصوصه بحاجة إلى تطوير في نقطتين، هما اللامركزية الموسّعة وقانون انتخابات لمجلس نيابي خارج القيد الطائفي ولمجلس شيوخ لتمثيل الطوائف وتحديد دقيق للعلاقة بينهما. ويعتمد القانون النظام النسبي على أساس الدائرة الواحدة أو الدوائر الكبرى، حيث نحفظ الاختلاط الطائفي في الانتخابات ونضمن الاعتدال في الخطاب السياسي، فيضطر المرشح للتوجه الى جميع اللبنانيين. ولا بد قبل إضافة اصلاحات أخرى من وضع روزنامة واضحة لتطبيق ما اتفق عليه سابقاً بالكامل.
تسوية أم صدمة علاجية جذرية؟
نحن نعرف أن لا مصلحة للدول الخارجية في الغاء الطائفية. هي منفذهم للسيطرة على مفاصل الحكم في لبنان وفي غيره من دول المنطقة. نعرف أن القوى الطائفية المتسلّطة على العباد ليست في وارد الانتحار. وصرنا نستجدي الوصايات الخارجية لكي ينتخب النواب رئيساً للجمهورية المنكوبة. ويوم تأتي ساعة الصفر وتتحدد أوزان الأطراف المحلية والإقليمية في لعبة المصالح، سيكون للبنان رئيس. نريده محاطاً برجالات دولة وصاحب رؤية انقاذية لوقف الانهيار وإدارة مرحلة انتقالية ترسي شرعية المؤسسات على قواعد مدنية.
والأمل، أن لبنان الوطن أكبر من طوائفه، ولنتذكّر كم كانت الآمال كبيرة يوم توحد اللبنانيون على فكرة الوطن الحديث، وكيف استطاعت أحزاب الطوائف إجهاضها. وخاصة بعد انتخابات نيابية جرت على ملعبها، وفق قانون انتخابي خبيث يثير الطائفية بدل أن يعزز المواطنية.
واللبنانيون الذين انفتحوا على ثقافات تعزز الإنسان الفرد، نراهم يتقبلون بسهولة قيم المواطنة. هم قادرون، بما يملكون من طاقات، على جعل التسوية المرتقبة، صدمة علاجية كبيرة تُحدث التغيير في جوهر النظام السياسي. وتُطلق عجلة بناء دولة تقوم على مبادئ حقوق المواطنين الطبيعية في الحياة الحرة والكريمة.
ويبقى السؤال المفتوح، من هي القوى التي ستحمل مشروع لبنان الجديد بعد فقدان أدواره السابقة؟
نشرت هذه المقالة المطوّلة في 180 بوست https://180post.com/archives/39065