أضواء على النوم

طلبت النوم هذه الليلة ساعياً لركوب قطاره لكني لم أجد في رأسي سوى أفكار تتداخل. واحدة تأخذني إلى مشروع سفر وأخرى تذكرني بعملٍ أهملته، ثم حضرت إلى ذهني صورٌ عنيدة وغير مكتملة، فأيقنت أن الأرق يتربص بي. أنا الذي تعوّدت زياراته المتكررة. فقلت في نفسي، لا تعاند يا فتى، وحاول مؤآخاة هذا الوسواس وقمّ للسهر قبل أن تتفلّت الأفكار فتستحيل سوداء، واسمع قولة مارسيل بروست: القليل من القلق مفيد في تقدير قيمة النوم وفي اللجوء للكتابة. وكانت هذه الأضواء على النوم، تركيبته وأسراره الغامضة
النوم جزء عضوي من الحياة يشغل ثُلثها. وهو الأخ التوأم للموت بحسب هوميروس. ويتكامل النوم مع اليقظة في دورة يومية تتأثر بنظام الليل والنهار. ويعمل باستقلال عن ارادتنا بإمرة بوصلة داخلية مركزها غدّة ما تحت المهاد. ونذهب إليه ليرتاح الجسم من تعب ما فات وليشحذ الفكر ذاته ويتهيأ للغد الآتي. وصفه جبران خليل جبران ب« ذاك الصمتُ القدسي » وقال: أنت تكبرون في النوم وتحيون أكمل حياتكم في أحلامكم… وأنكم لتفكرون أغلب الأحيان، وتقولون عن الليل أنه وقت الراحة، مع أنه في الحقيقة وقت السعي والتحصيل».

تعددت الوسائل لدراسة النوم، من مراقبة النائم إلى استعمال آلآت التخطيط المتعدد لتسجيل ذبذبات الدماغ ونشاط العضلات وحركات العيون وفي بعض الأحيان رسومات تخطيط القلب والتنفس ومستوى تشبّع الدم بالأوكسيجين. ولا ننسى اللجوء إلى تحليل روايات الأحلام.
والنوم عند البالغين أشبه بقطار مؤلف من 4 إلى 6 حلقات مترابطة يفصل بينها فترات استيقاظ وجيزة لا نَعيها. تبدأ الحلقة الأولى بحالةِ تسمّى نعاس يقول فيه نيتشه: «يا لسعادة من يشعر بالنعاس، لأنه سيستولي عليه» ويرميه في حالة رقاد تتثاقل فيها الجفون وتتباطأ ذبذبات الدماغ ويُمسي في حالة نوم خفيف يَسبق ارتخاء العضلات وانخفاض خفقان القلب، ليدخل بعد ذلك في حالة نوم عميق يجد فيها الجسم راحة قصوى والدماغ صفاءَ وسكوناً. يلي ذلك حالة نشاط ذهني تتميّز بأحلام ترتعش اثناءها العيون ويتقطع التنفس وقد يُبدي الوجه حركات تعبيرية تنمُّ عما يدور من أحلام
بعد الحلقة الأولى في قطار النوم، نمرُّ بحالٍ من يقظة ناعسة قبل الغوص في حلقة ثانية. وهكذا يتكرر الانتقال من حلقة إلى أخرى… حتى الصباح
وتتغيّر مدة النوم وتتعدل طبيعة كل مرحلة من مراحله مع تقدم العمر. ويصبح النوم خفيفاً ومتقطعاً بنسبة أكبر عند المسنين. ونرى في الواقع أن البعض ينام كثيراً والبعض الآخر ينام قليلا، ولا ضير في ذلك على القدرات العقلية. فنابليون مثلاً كان يكتفي ب4 أو 5 ساعات نوم، وكذلك اديسون وتشرشل، بينما كان اينشتين يحتاج إلى 9 إلى 10 ساعات. وهناك من يستيقظ باكراً ومن ينام حتى الضحى، وهناك أيضاً من ينام مع غياب الشمس وآخر يسهر حتى الفجر. فكل هذه المزاجات طبيعية… حتى أن الفيلسوف الألماني كانط كان يميل إرادياً إلى النوم القليل لاعتقاده أن ذلك يكسبه عُمرًا أطول. يوافقه الرأي الشاعر الفارسي عمر الخيام الذي قال ما سمعنا ام كلثوم تردد له: فما أطال النوم عمراً ولا قصّر في الأعمار طول السهر ».
غير أن تجارب الحرمان من النوم أثبتت بأن الإنسان لا بد له من نوم اجباري يُقدر بنحو 5 ساعات يومياً لكي يحتفظ الإنسان بقدراته الذهنية. فحرمان النوم يؤثر على التركيز وتحليل الأمور وتخزين المعلومات. وما عدا النوم الاجباري هناك نوم اعتيادي نرسمه لأنفسنا مع الزمن بما يتناسب
مع نظام العمل الاجتماعي
وتحدث خلال النوم أنشطة معقّدة على مستوى الدماغ والجسم. ويتحرك الإنسان النائم بين الحين والآخر لتسهيل دوران الدم في الجسم وتفادي أن يثقل على مكان واحد. ولا يستطيع الاحتفاظ بتوازنه بفعل جاذبية الأرض إلا اذا استلقى، بينما الحصان ينام « واقفاً ». وتنام القطط بين 14 وعشرين ساعة، وينام الخروف والبقرة مدة 3 ساعات. ويتميّز الدلفين ( وهو نوع من الحيتان البحرية) بطريقة نوم فريدة، إذ تنام جهته اليسرى بينما تبقى جهته اليمنى متيقّظة، إلى أن يأتي دورها في النوم. تؤمن الدلفين عبر هذه الطريقة حاجتها من التنفس

هل يمكن اعتبار النوم فقداناً للوعي أم تغيّراً لحالة الوعي؟
لا يتوقف العقل عن التفكير حتى في أعمق حالات النوم. لكن أفكارنا لا تكون واعية ولا تحمل لنا ذكريات. ولا زالت الأبحاث تجري، تفضي أجوبتها إلى أسئلة وأسرار جديدة. لكن هناك افتراضاً شائعاً بأن للنوم أغراضاً ووظائف بيولوجية كالحفاظ على الطاقة وتحفيز النمو وترسيخ الذكريات. ولعل علّته المؤكدة هي « أننا ننام لأننا ببساطة نشعر بالنعاس » كما استنتج ويليام ديمنت أحد الباحثين الرائدين في القرن الماضي
واحتلت الأحلام أهمية في الفلسفة كونها تشكك بثقتنا في طبيعة العالم الذي نشاركه مع الآخرين. وكونها نمطاً للوعي، على عكس ما زعم فرويد بأن الأحلام « طريق ملكي الى اللاوعي ». ولعل من العبث بناء سردية منطقية لما يدور حين يتحكم سلطان النعاس بالجسد. ولقد ذكر ريمون تاليس المتخصص في الإدراك وفلسفة الذهن في مقالة نُشرت عام 2012 في مجلة « الفلسفة الآن» قصة السيد تسته، الشخصية التي اخترعها المفكر والشاعر بول فاليري. كان الأخير قد ترك بطله ينجرف للنوم وراقبه في مراحل تلاشي وعيه ومراحل استيقاظ عقله تدريجياً. واقترح أن الأحلام قد تكون باباً لفهم مرور الجسم من حالة النوم إلى اليقظة. والحال أن أهمية الأحلام تكون فقط عندما نكون في قبضتها كأحلام لمغامرات ليلية
===

: ومن كشكول الأقوال المأثورة

جلال الدين الرومي: أن كنت معي أسهر الليل كله .. وإن غبتَ عني لا استطيع النوم.. وما أشد الفرق بين الاثنين رغم أن كليهما أرق

عمر الخيام: أَفق خفيفَ الظلِّ هذا السحر .. نادي دَعِ النومَ وناغِ الوتر

قيس بن الملوح: وإني لأهوى النوم في غير حينه.. لعل لقاء في المنام يكون

يوسف زيدان: النوم هبة إلهية .. لولاها لاجتاح العالم الجنون

المعري: والموت نومٌ طويلٌ ما له أمد.. والنوم موتٌ قصير فهو مُنجابُ

محمود درويش: ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة لم نحلم بأشياء عصية