لنضع النظام الغذائي بأكمله تحت المجهر. لنطرح أسئلة الصائم. مروحة الأسئلة واسعة ولا تنتهي عند أثر الصيام على استقرار الوزن. فالعلاقة التي ينسجها الإنسان مع الطعام حميمية. تأصل في شخصيته. تثير حواسه وعواطفه، وهي في أساس صلاته الاجتماعية
سلوكيات الأكل، هي جزءٌ لا يتجزأ من أسلوب الحياة. ولعل في اختيارنا للأطعمة رسائل يجدر تفكيك حروفها. فِعل الأكل نفسَه يُحيل إلى فكرة الجسم-الآلة الهاضمة وكيفية عملها. ويُحيل أيضاً، إلى عالم التخيلات الواعية واللا واعية التي ترتبط بتاريخ الصلة مع أطعمة محددة مثل اللحوم، الخبز، التمر، الحليب. بالإضافة إلى أننا نتذوّق المأكولات، ونشارك الآخرين في عادات وطقوس.. وتستعاد في شهر رمضان وصفات لأكلات خاصة، وتتجدد العلاقات الاجتماعية على وقع الموائد الحافلة بالطيبات والسهرات الرمضانية
في الصيام ينتقل الجسم إلى نظامٍ غذائي جديد يضعهُ أمام امتحانٍ فيزيولوجي كبير. فقد كان يُلبي حاجاته الغذائية عن طريق عدد كبير من وجبات الطعام، ويجد الجسم نفسه يتبع نظاماً مختلفاً يَمدّه بالمغذّيات وفق قاعدة وجبتين رئيسيتين، السحور والإفطار. ومنذ اليوم الأول الذي لا يأكل المرء فيه فطوره الصباحي، ولا يجد الجهاز الهضمي شيئاً يهضمه، هو الذي أكمل للتو امتصاص المواد الغذائية التي وفدت بالأمس، يقع الجسم تحت ضغط الحاجة إلى إمداد دائم من الطاقة، في وقت ينخفض فيه مستوى السكر. وهذا أمرٌ جلل. كما يستشعر الحاجة إلى الماء، وهذا أمرٌ جلل أيضاً
ماذا يحدث للجسم أيام الصيام؟
من الناحية الفيزيولوجية ومنذ اليوم الأول للصوم، يحدث انخفاض في نسبة السكر في الدم وفي مستوى هرمون الأنسولين. وفي بحثه عن الطاقة، يتوجه الجسم أولاً إلى احتياطه الأولي الموجود في الكبد والعضلات، ويلجأ إلى مسارات رديفة لانتاج سكر الغلوكوز من الأحماض الأمينية والأحماض الدهنية. وبعد يومين إلى ثلاثة أيام والجسم لا يملك شيئاً يهضمه، نراه يدخل في حالة أيض (استقلابية) مختلفة. هي حالة من الحماض تُنشِّط العمليات الكيميائية الحيوية داخل الجسم. تتفعّل آليات الحماية الذاتية تحسباً من قلّة الموارد. فيحصل تقنين في استعمال الطاقة وتباطؤ في عمل الأجهزة بهدف المحافظة على البروتينات النادرة (الإنزيمات والهرمونات) التي تستعمل في تجديد الخلايا.
وبعد أربعة إلى خمسة أيام، يتأقلم الجسم مع التوازن الجديد. فبدل استهلاك سكر الغلوكوز كمصدر طاقة، يبدأ بحرق الدهون المخزنة في الأنسجة الموزعة على كافة أنحاء الجسم. وللعلم، يعادل احتياط الدهون
عشرة كيلوغرامات عند شخص بالغ متوسط الوزن. وفي أيام الصوم الأولى يخسر الجسم الكثير من المياه ويفقد بروتينات. لا داعي للقلق، فهي عملية إعادة تدوير للتخلّص من البروتينات المستهلكة تنتج زيادة في البقايا والنفايات. وتلخص الباحثة فرانسواز ويليام دي توليدو في كتابها ”فن الصيام“، حال الجسم في هذه الفترة من الصيام حيث «ينام الصائم بشكل سيء ويعيش نوعاً من الاضطراب والقلق والشعور بالتعب وينخفض عنده ضغط الدم ويضاف إلى ذلك الصداع والغثيان والحموضة المعوية»
وبعد الاسبوع الأول من الصيام وحتى نهاية شهر رمضان، يتبدل عمل الجهاز الهضمي. تنخفض أعمال تخزين المواد الغذائية الأولية وتُستهلك المُدَّخرات، وتتسارع عمليات تنظيف الأمعاء والكبد والدم من السموم.
تكفي عشرين دقيقة من بدء الأكل حتى ترسل المعدة اشارات إلى الدماغ تنبأه بالشبع. فلنستمع إلى الجوع لكي نأكل، ونصدِّ النفس قبل الشبع. فهو بحسب الشافعي «يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة»
لصوم أكثر يسراً
أن أفضل نظام غذائي هو النظام الذي يضعه المرء بنفسه لنفسه. ويستند إلى دراية بالمعلومات المفيدة عن الأغذية. ويعتمد على خطة غذائية للوجبات الرئيسية على عدة أيام
الثوابت الغذائية العامة يعرفها الجميع عبر التجربة والتربية على المسؤولية في تغذية أنفسنا.. لنوجّه الضوء مثلاً، على معنى أو معاني أن يكون النظام الغذائي متوازناً. وكيف نوزع الموارد من المغذّيات خلال يوم غذائي عادي؟ ماذا عن عدد وجبات الطعام، والطريقة الفضلى في توزيعها بحسب العمر والجنس وظروف العمل؟.
يستدعي النظام الغذائي المتوازن إدارة ذكية، تلجأ بقدر المستطاع إلى مصادر الغذاء الطبيعية. وتُحسن اختيار أصناف الطعام وتوزيعها على وجبة الإفطار ووجبة السحور للحصول على جميع المغذّيات الضرورية. ويستدعي «النظام الصحي المتوازن» ذكاءً غذائيا ناضجاً لكي يحسب ويدير الكميات المناسبة من السكريات والدهون والبروتينات والفيتامينات. ولتنويع وصفات الأطباق كي تشمل، على مدى أيام أو أسبوع، كافة المغذّيات.
لا بأس ونحن أمام المائدة الرمضانية العرمرمية التي تحوي أصنافاً متعددة من السلطات أو الشوربات والمعجنات والأطباق الرئيسية والحلويات والفواكه، أن نرتب في الذهن برنامجنا الخاص للإفطار واختيار نوعية المأكولات. والمبدأ، هو أن نأكل باعتدال وبطء. وأن نكتفي بأصناف قليلة ومتنوعة، تتكوّن من الشوربات أو السلطات وأحد الأطباق الرئيسية، ثم يليها بعد ساعة الحلويات (أول سناك) وبعد ساعتين الفاكهة والمكسرات (ثاني سناك). والصيام مناسبة لتقوية الإرادة. فهل نتمرن على التحكّم الإرادي بكمية الطعام اللذيذ الذي نأكله؟ وقد يفيدنا الانشغال والاستمتاع بجو اللقاءات مع العائلة والأصحاب في ظبط الشهية المنفلتة.
معالم وجبة افطار صحية
وجبة الإفطار المثالية تستند إلى معطيات بحت فيزيولوجية تعود لعمل جهاز الهضم، والتوازنات الهرمونية والحاجة إلى المغذّيات. فقد يفيد البدء بشرب كوب صغير من الماء معتدل الحرارة. فغالبا ما تكون الرغبة في الأكل بسبب العطش لا الجوع. وبعد انتظار قليل يُستثمر في حصر الأصناف التي سنتناولها في الإفطار. من المفضل أن نقصد تناول الطعام على دفعات، أي أن تُقسّم وجبة الإفطار إلى حصص واستراحات تقصر وتطول بحسب ظروف المشاركة مع الآخرين على امتداد السهرة الرمضانية.
ولفترات الاستراحة بعد تناول حصّة افطار أهمية كبيرة، فالراحة توفر لغدد الهضم العمل بأحسن الظروف التي تراعي افرازات العصارات المختلفة. وتتيح فرصة أكبر لتحلّل المدخرات الغذائية وتنشيط عمليات الأيض الحيوية.
وألفت الإنتباه إلى عادة حميدة لا تُعطى حقها من الأهمية. وهي التمهّل بالأكل.
لنتذكر، أنه تكفي عشرين دقيقة من بدء الأكل حتى ترسل المعدة اشارات إلى الدماغ تنبأه بالشبع. فلنستمع إلى الجوع لكي نأكل، ونصدِّ النفس قبل الشبع. فهو بحسب الشافعي «يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة» ولا نلومن أحداً سوى أغلاط نرتكبها في غذائنا. فإنما أعمالكم تردّ إليكم، بحسب كمال جنبلاط
معالم وجبة سحور صحية
السحور ليس ترفاً بل وجبة أساسية. يمكن تشبيهها بالفطور المتأخر يوم العطلة. يعطي الجسم زوادة مغذّيات كي يستخدمها خلال ساعات الصوم. ويكون متوازناً عندما يكون متنوعاً ويمدّ الجسم بالمجموعات الغذائية الأساسية من الأطعمة الغنية بالبروتينات، ومن الأطعمة الغنية بالألياف لأن هضمها يتم ببطء. وهي تشمل الحبوب والتمر والقمح الكامل والخضروات والفواكه. ويعتبر الموز مصدراً للبوتاسيوم وغيره من العناصر الغذائية التي تساعد على الحفاظ على السوائل في الجسم. ويُنصح بشرب كمية كافية من الماء لتجنب الإحساس بالعطش خلال النهار. وبتجنب الأطعمة المالحة (المخللات والمكسرات) والأطعمة الدسمة والتوابل والبهارات لأنها تزيد من الإحساس بالعطش.
الغذاء في يوم العيد
يوم دخل الصائم في صيامه استغرق تأقلم الجسم على روتين الوجبتين، الفطور والسحور، أياماً. في يوم العيد ستبدأ مرحلة أخرى من التأقلم على روتين غذائي جديد.
والشائع أن نأكل بكثرة يوم العيد، لأن الشهية تأخذ راحتها. والشهية تحب التنويع في الطعام لكنها قد تُمسي نهماً زائداً للحلويات وتجاه كل ما هو لذيذ
لتجنب الفوضوية في تناول الطعام يوم العيد ننصح بإدارة حكيمة لروتين وجبات الطعام. يقوم على مبدأ التدريج في الانتقال إلى نظام ثلاث أو أربع وجبات. كأن تتناول الوجبات الرئيسية في أوقات مقاربة لأوقات الافطار والسحور. ومن ثَمّ تعديل مواقيت الوجبات على مدى عدّة أيام لثبيت النظام الغذائي الصحي الذي يتناسب وظروفنا الحياتية، مستفيدين من دروس وعبر شهر الصوم.