في خضم تزايد موجات الهجرة وتهجير الشباب اللبناني، أحببت نشر مقاطع من مساهمات كانت قد عاينت هجرة اللبنانيين الى فرنسا على مدى عقود
خصوصيات الهجرة إلى فرنسا في القرن العشرين
قبل عام 1975 كان صعباً الحديث عن جالية لبنانية في فرنسا، ولم يكن حضور اللبنانيين يتسم بالثبات. كان يقتصر على أعداد بسيطة من رجال الأعمال والطلاب من الفئات الميسورة. والفئات التي غادرت لبنان في حرب السنتين (1975-1976) كانت لها خصوصيتها، قسم كبير منها اتخذ الديار الفرنسية وباريس خصوصاً محطة موقتة لإنجاز معاملات الانتقال والهجرة الى كندا واستراليا وافريقيا والولايات المتحدة. وقد سهل على هؤلاء اتخاذ فرنسا محطة لهم في هجراتهم، اتباع السلطات الفرنسية، حينها، سياسة سهّلت على اللبنانيين الذين غادروا بلدهم على عجل، الحصول على تأشيرات سفر وإقامة من دون صعوبات كبيرة
في السنوات التي تلت هجرة ال75-76، توسّع الجسم الطالبي بوتائر متسارعة بعد أن سُدّت آفاق التحصيل العلمي في لبنان على ايقاع حروب تناسلت. ومع اقدام مؤسسة الحريري على تقديم منح دراسية لمئات الطلاب سنوياً بين 1982-1988 شملت الهجرة الطلابية فئات لبنانية لم يكن أبناؤها في وارد طلب العلم في الخارج. وتنوعت وجهة موجات طلاب هذه المنح لتطال مدناً فرنسية اخرى مثل فيشي وبزنسون وغيرهما
وكانت الثمانينات من القرن العشرين عقد هجرة لبنانية كثيفة الى فرنسا وغيرها من بلاد العالم. غيّر ذلك من تركيبة الجالية وحضورها. وبدأت اعداد كبيرة تستقر في اقامتها وتدخل سوق العمل الفرنسي في مجالات الاعمال الحرة والمهن الطبية. كما اتسعت في الثمانينات ظاهرة أعداد العاملين في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مهاجرة، ونشأت شبكة واسعة من المطاعم اللبنانية فشكلت قطاعاً منتجاً ومزدهراً يستقدم الخبرات البشرية والمواد الاولية
ومع ظهور المجتمع اللبناني مأزوماً وممزقاً تتحكم في جماعاته انقسامات حادة، تغيرت صورة لبنان التي كانت زاهية ومسالمة قبل الحرب، كما تعدّل سلوك السلطات الرسمية حيال الجالية اللبنانية اثر مشاركة شبان في عمليات تفجير ارهابي واغتيال. فقامت الأجهزة الأمنية الفرنسية بالتضييق غلى فئات من اللبنانيين والتشدد في منحهم الإقامة والجنسية
في التسعينات من القرن العشرين، لم يتوقف تزايد اعداد الطلاب والعاملين في القطاع الطبي ومهن الهندسة المعلوماتية. وانتشرت المطاعم والمؤسسات الخاصة والمتاجر الصغيرة. وشهدت التسعينات أيضاً، انتقال فئة من لبنانيي المهجر الافريقي الفرنكوفوني الى فرنسا بسبب اضطرابات الاحوال في هذه البلدان حينها، أقامت غالبية منهم في مدن الجنوب الفرنسي وانخرط أبناؤهم بعد انتهاء تحصيلهم العلمي في سوق العمل الفرنسي
ومع مرور الزمن، بدّل التوسع صورة الجالية اللبنانية وعلاقات أبنائها فيما بينهم كما غيّر علاقتهم بلبنان. ومن علامات هذا التغيير، ظهور جمعيات وروابط لبنانية كثيرة تنوعت بين مهنية وثقافية وبلدية، وكان بعضها في أهدافه وتركيبه واستقطاباته صورة مصغّرة عما كانت عليه حال المجتمع اللبناني من انقسامات وحساسيات في زمن الحرب والزمن الذي تلاه. لكن معظم الجمعيات كان مؤقتاً وموسمياً حسب قدرة مُنشئيها على النشاط وتقديم الخدمات. ويمكن القول ان علاقات التضامن الناشئة كانت تعكس الانفصامات اللبنانية. فهم كأفراد يتمتعون بمواهب في تدبير شؤونهم ونجاحهم الدراسي والمهني وفي التأقلم والاندماج. غير أن هذه المواهب كانت تنقلب الى عكسها حين يتطلب الامر انخراط الأفراد في أعمال مشتركة وعامة. ذلك ان اللبناني، على العموم، قليل الاحترام للقوانين والأعراف العامة المشتركة وينفر من العمل في اطار مجموعات منظمة. فسرعان ما كانت تظهر الانانيات المتوّرمة والاستقطابات الطائفية والمناطقية. وفشلت كل المحاولات لتأطير الجمعيات العاملة في فرنسا وجمعها على نشاطات لا تذوب في حضن دين او مذهب معين
في العام 2002، فشلت محاولة جدية لمجموعة كبيرة من المغتربين المستقلين والحريصين على استقلالهم عن أحزاب الحرب الأهلية. قام هؤلاء بعمل ديموقراطي دؤوب لمدة عام ونصف وسعى لتأسيس نادي ثقافي اجتماعي يكون مركزاً للنشاطات الثقافية والخدمات الاجتماعية وملتقى لتوثيق الصلات مع لبنان وبين اللبنانيين-الفرنسيين وخصوصاً أبناء الجيل الثاني من الاغتراب اللبناني. أصطدم هذا « النادي » ذو الطابع المواطني بالقوى التابعة للأطراف السياسية الطائفية التي استشعرت خطر العمل الجامع على تمثيلها للجالية، فعملت على وأد التجربة قبل ولادتها الشرعية. وبقيت حال الشرذمة القائمة مفتوحة على الاستيعاب السياسي الفئوي الطائفي الى يومنا هذا
هكذا استقر اغتراب الجيل الأول الذي ركب موجات الهجرة في 1976 والثمانينات على تنوع مهني وديني وتعدد في المنابت المناطقية. وعضّ هذا الجيل على حنينه مقراً بالواقع الجديد. وبدا أن ارتباطه بالوطن يتأثر بعمر اغترابه ودرجة الانخراط وتأقلمه. فصرنا نجد منّ تَذوب هويته في المجتمع المضيف، ومنّ يعيش حالة حصارٍ واقتلاع نفسي وثقافي ولغوي، ونجد أيضاً منّ يملك الذخيرة المناسبة للتفاعل الخلاق مع الثقافة الفرنسية ويغني البيئة الجديدة بابداعاته
واذا ما نظرنا الى تطورات وتبدلات عادات الأكل والمؤاكلة عند هؤلاء، على أساس انها تعكس وجهاً ثقافياً من عناصر التواصل والتبادل والتثاقف، فإننا نلحظ حضوراً ثابتاً للمآكل اللبنانية على موائد اللبنانيين . ونرى في الوقت نفسه انفتاحاً خلاقاً على الأطعمة الفرنسية وحين يتبع نظام الوجبات على الطريقة الفرنسية تَحضر أيضاً المآكل اللبنانية. وحين تُقام الولائم التي تعزز الشعور بالإنتماء الأصلي تتحول مناسبة لممارسة طقوس التعريف بالمأكولات اللبنانية وتعريف الآخرين من أبناء البلدان والثقافات الأخرى بلبنان وثقافته المطبخية والغذائية
نظرة الجيل الثاني إلى بعض العادات السائدة في لبنان
بدا الجيل الثاني من الهجرة منخرطاً بدون تعقيد في مجتمعه الجديد. نراه ينهل من ثقافة تعزز الانسان الفرد. ويشعر بأن ثمة من يُقدّر مواهبه وامكاناته فصار يتقبّل بسهولة ملفتة قيم المواطنية. ويشكر نعمة وطنه الجديد ويفخر بالقوانين والانظمة التي يتعلّمها في المدرسة. ولا تجذبه الشعارات والايديولوجيات بل تحقيق النتائج العملية
ويمكننا تقسيم الجيل الثاني من أبناء الجالية اللبنانية الى فئات ثلاث:
فئة تعيش حياة مستقرة، يُدرك المنضوون فيها انهم مواطنون فرنسيون وتحملهم هذه الصفة الى التعريف بأنفسهم على انهم فرنسيون-لبنانيون او فرنسيون من اصل لبناني. والمجتمع الفرنسي على وجه الإجمال، يشرّع الأبواب لتفتح القدرات والمواهب ويعترف بها من دون الحاجة الى الاستقواء بوسائط خارجية قد ترفع من هذا وتسقط ذاك، او تدني واحداً وتستبعد آخر
والفئة الثانية، قد تكون ضيقة وضئيلة العدد، يعيش أبناؤها حالاً من الانغلاق والتقوقع على شعور بالانتماء الى الثقافات الأهلية اللبنانية المنتقلة مع المهاجرين اللبنانيين الى فرنسا.
الفئة الثالثة، يعيش المنضوون فيها حياة متأرجحة بين الاندماج وبين فكرة العودة يوماً الى لبنان، لكن ومع مرور الزمن تفتر روابطهم بثقافة الاهل. وينفرون من بعض القيّم السائدة في لبنان، كحب الظهور والتمادي بإظهار الثروة
وتجدر الإشارة أن أغلبية أبناء الجيل الثاني لا تهتم بالامور السياسية وتنجح في الدراسة وفي الارتقاء الاجتماعي. معظمهم أقرب الى ان يتمتع بشخصية «المواطن العالمي» في ميوله وفي أنماط العيش والذوق والأكل والملبس. وهو انتقائي في تذوقه أعمال الموسيقيين، وينجذب الى خلط انواع متباينة ومتنافرة. وهم لا تجيدون لغة الأهل الأصلية. منهم من يتكلمها في البيت فقط، من دون ان يعرف القراءة والكتابة بها. ومع مرور الوقت، أي في بدايات عمر الإدراك وبناء الشخصية الفردية، تضعف روابط هذا الجيل بأهله وبقيمهم السابقة على الهجرة
والحق انهم ينجذبون في مرحلة الطفولة الى دفء الحياة والعلاقات الأهلية والقرابية وسيولتها في أثناء زيارتهم لبنان في العطل. لكنهم غالباً ما لا يحوّلون هذا الانجذاب الى معطى ثابت وأصيل في حياتهم ومداركهم، بل يتركونه على هامش الحياة الحقيقية التي يعيشونها، او يجعلونه مداراً لذكريات أليفة، من دون السعي الى جعله نموذجاً يستلهمونه في حياتهم الفرنسية. ويظل الإنجذاب الى نمط الحياة اللبنانية حياً في مخيلاتهم لكنه يخفت ويتلاشى، قبل ان ينطفئ في بداية الفتوة والشباب ويقد تحول الى عكسه أي النفور من الحياة اللبنانية وقيمها. ينفر من ثقافة حب الظهور والتشاوف وعبادة المظاهر على نحو صارخ. ويرى انها قناع لانعدام الاختيار الشخصي الحر ولغياب حس التواضع. ينفر بل ويسخر من تمادي اللبنانيين في إبراز الثروة والتباهي بها، والإصرار على اقتناء السيارات الفخمة وعلى ارتداء الثياب بحسب الموضة الأخيرة من دون شخصنتها ناهيك عن الإسراف في الاستهلاك المفرط للكماليات وفي تبديل أجهزة الهاتف الخلوي وفي استعمالها كيفما اتفق. ينفر من « اقتناء » اللبنانيات خادمات أجنبيات كأنهن أشياء أو كائنات غير انسانية. ينزعج من إصرار اللبنانيين وتماديهم على التدخل في خصوصية حياتهم وأسئلتهم : من تكون، من أي منطقة أنت، كم تقبض؟… وهم لا يستسيغون اهتمام اللبنانيين بالانتماءات الأهلية والطائفية وقلة احترامهم لقوانين النظافة والسير. ويسخرون من اعتبار اللبناني نفسه موهوباً في تدبير شؤونه، ويلحظون مقدار إصابة الأجيال الشابة اللبنانية باليأس والإحباط من أوضاعها في البلاد. فمن الطبيعي ان لا يفكر هؤلاء بالعودة إلى لبنان وهم يستقبلون كل يوم افواج المهاجرين الجدد الذين يعكسون عدم الثقة بنهوض الوطن
أما الجيل الأول للهجرة إلى فرنسا، جيل الأهل، فيعيش على خوف وقلق، ولا يبقى لهم غير تجرّع الحسرات المؤلمة، فيما هم يعيشون «غربة» أبنائهم عنهم وفتور في روابطهم مع الوطن الذي يتعمق جيلاً بعد جيل وتبدو صلاته تتهدد بالإنقطاع مع الزمن