في عُمق ذاكرة الإنسان، تتشابك سلوكيات الطّعام والغرام بنحو جذاب، متداخلةً في طبقات اللاوعي الجمعي والتجارب الشخصية الواقعية. ولكل فرد تجربته الفريدة مع مذاقات الطّعام والحكايات العاطفية. فلدى الإنسان شعورٌ غريزيٌ يدفعه ليُشبع حاجاته الغذائية والجنسية. يشتهي الأطعمة ويشتهي مواقعة الحبيب. وتتحفّز هاتان الرغبتان بذات المحرّك الهرموني الذي يوازن بين الحاجة إلى البقاء والإغراء الجنسي.
ويتعامل المجتمع مع الغرام والطّعام بحدود تتراوح بين الحرية والقمع. فقد وضعت الشرائع الدينية قواعد صارمة تخص كلاً منهما، تشمل محرمات غذائية وتوجيهات على قاعدة قمع الهوى ومخالفة ما تدعو إليه الطباع التي تتجه إلى اتباع الملذات بلا حساب، وتفترض أن الغريزة قاهرة أيما خلا رجل بامرأة «يكون الشيطان ثالثهما». ومن المفارقات أن العلم الحديث أثبت من خلال تقنيات الرنين المغناطيسي أن القرب من المحبوب يثير فيضًا من هرمونات السعادة في مناطق الدماغ المرتبطة بالمتعة.
سلوكيات متقاطعة في مسار الحياة
ينجذب الإنسان فطرياً إلى ما هو جميل في ذاته وطبيعته، ويميل الوليد حصراً إلى طعم السكر- الحلو باعتباره أول تعريف للغذاء. ففي الرضاعة يمتزج غذاء الطفل بعلاقته الحميمية مع أمه، ومن خلال تهدئة ألم الجوع يكتشف متعة الأكل ودفء الاحتضان وتلك الرائحة المطمئِنة. فتنشأ دائرة فاضلة من المتعة المتزامنة التي تنمو لتكون أساسًا لتعلّم فنون الحب.
ويتطوّر تعامل الإنسان مع الأكل بمرور الزمن، متأثرًا بمحفزات بيولوجية كنِسب السكر في الدم والأملاح ومستوى هرمونات محددة… وعوامل نفسية واجتماعية شتى. ولقد أهدت الطبيعة الإنسان فضيلة الحشرية تجاه ما هو جديد، لكنها تكون مصحوبة بالحذر والخوف من المجهول. هكذا تُعبّر خياراتنا فيما نأكل عن رسائل عفوية يجدر تفكيك حروفها، وتلعب فيها المشاعر والعواطف دورًا كبيرًا.

تُسْتَكْشَف مذاقات الأطعمة خلال سنوات الحياة الأولى. يُشعرنا كل نوع بحيوية خاصة به، هي الأحاسيس التي يُحييها والحالة النفسية التي تنتج عن استهلاكه. نتعلّم أن هناك أطعمة تهدأ الجوع، وأخرى تثير القوة والنشاط، وغيرها للضيافة أو لتهدئة الأعصاب، أو تعمل كمنشطات جنسية… وتعمل مخيلة الإنسان على وصم بعض الأطعمة بمعاني رمزية مجردة، فيرمز المالح الممزوج برائحة المغذّيات الحيوانية للقوة والرجولة، ويرمز العسل إلى حلاوة اللقاءات والأحاديث… وبمرور الزمن تترسخ عادات غذائية وتقاليد اجتماعية، لتصبح سلوكيات الأكل جزءًا لا يتجزأ من ثقافات الشعوب.
واللافت أن تُطلق على الحلويات تسميات إيحائية “عيش السرايا”، “بيضات الملائكة”، و”السنيورة”، و”زنود الست”، و”مفروكة، و”عش البلبل”، و”مقروط اللوز” … ربما لترابط ما هو حلو باللذة الجنسية.
وتشكل مائدة الطعام مجالاً للمشاركة مع الآخرين، حيث نتعلم أساليب الأكل داخل الأسرة، وعلى متنها تتنفس العلاقات الاجتماعية، نجري الصفقات، نُحلّ الأزمات ونصنع الصداقات…
للطعام دور محوري في قصص الغرام
إذا كان الله قد خلق الطعام فالشيطان يصنع له التوابل (جيمس جويس. في دعوة عشاء تتجسد فرصة لرومانسية ناشئة، حيث يوفر الطعام بدوره بيئة للإعجاب والاتصال البصري. والعشاق يجدون في النكهات المبهرة وسيلة للتعبير عن حبهم. ومن يحب يطبخ جيداً… للحبيب، ويستمتع معه بوجبات محضّرة بعناية. فالرغبة في طبق شهي تُسيّل اللعاب، والرغبة في الجنس تُرطّب المهبل عند المرأة، وتفعّل الانتصاب عند الرجل. فكما يشتهي النّاس الأطعمة بشغف، فإنهم كذلك يتوقون إلى لذة اللقاء الحميم مع الأحبة.
نحب كما نأكل والعكس صحيح

العلاقة بين الأكل والغرام تثير تساؤلات عديدة: هل تتشابه عادات الأكل مع أنماط العلاقات العاطفية؟ هل يمكن تشخيص سلوك الفرد في السرير من خلال فحص ما يجري على طاولة الطعام؟ وهل من يأكل بسرعة يتصرف بالسرعة نفسها في الحب؟ هذه التساؤلات تبرز الطبيعة المعقّدة لحياتنا الحسية والوجدانية. وماذا يمكن القول عن الذي يطبخ على نار هادئة، ويعتني بأدنى التفاصيل، ويتذوّق مأكوله بتأنٍ؟ هو على الأرجح، يدير رغباته عبر إطالة اللحظات التمهيدية. وهناك الذي يحافظ على روتين غذائي رتيب، أو يحشو معدته بلا حساب، أو يفرز الأصناف، ويقسمها بشكل متناسب في صحنه، هؤلاء يمارسون الجنس من دون تفاعل عاطفي حقيقي، معهم، قد لا يحصل أمور مفاجئة في السرير.
الاستقرار في العلاقة العاطفية قد ينعكس على طريقة تناول الطعام ونوعه، فقد يكون الخلل في أحدهما مؤشرًا لسوء التواصل في الآخر. وفي أوقات الاضطراب العاطفي، كثيرًا ما نلجأ إلى الأطعمة التي تعيدنا لذكريات الطفولة، باحثين عن الأمان والراحة.
أطعمة تحسن القدرة الجنسية
الحديث عن الصلات الوثيقة بين الأكل والجنس يتحول في الذهن إلى الأطعمة التي تحفز الطاقة الجنسية وتدعم الفحولة. قائمة هذه الأطعمة طويلة ومتنوعة. لكن لا يكفي أن يتميّز بعضها بما توحيه بالشكل أو بالملمس، لا بد أن يكتنز الطعام عناصر غذائية تدخل في إنتاج هرمونات التستوستيرون والإستروجين. مثل الزنك الذي نجده المحار والكاجو، والفيتامين د الذي تفعّله أشعة الشمس. كما نذكر الأحماض الدهنية الصحية التي نجدها في الأفوكادو والجوز. والأطعمة التي تحسّن تدفق الدورة الدموية كالمكسرات، أو تلك الغنية بمضادات الأكسدة مثل البطيخ والزنجبيل والفراولة والرمان، بالإضافة إلى التوابل والبهارات. أما الشوكولا فيحوي عناصر تعزز الشعور بالسعادة والراحة النفسية.
دراسة النفس والسلوكيات الغذائية والعاطفية
لقد أُسّست فروع علمية لدراسة تأثير العادات الطّفولية في تناول الطّعام على السلوكيات العاطفية والنفسية اللاحقة. يظهر أن إعطاء الأطفال حرية الاكتشاف في تجربة الأغذية يعزّز نموهم الشعوري، بينما يساهم الإفراط في القيود في نشوء عواطف مضطربة. يشير الخبراء إلى أن النضج يتطلب التوازن بين الإشباع الفوري للحاجات والتحكم في النزوات، مما يعزز حياة متوازنة وثرية.
سلوكيات تتراوح بين الأكل العشوائي والنهم